الاسم إيطالي والنكهة فرنسية
لا يضاهي اناقة الفرنسيين، إلا نكهة مطبخهم. فهم اساتذة في الصلصات، وفنانون في طبخ اللحوم والأسماك، بل بإمكانهم ان يحولوا مجرد ساندويتش بسيط مكون من الخبز الفرنسي والجبن إلى وجبة لا يعلى عليها وبأقل جهد. أما فيما يتعلق بالحلويات فحدث ولا حرج، فمقولة الملكة انطوانيت الشهيرة وهي ترد على ثورة شعبها وجوعهم بإعطائهم قطع بسكويت، يمكن ان يفسرها أي خباز فرنسي اليوم، بلؤم، على انها خير دليل على تاريخهم المجيد في هذا المجال ايضا.
فربما لو تمكن الثوار من شراء البسكويت لذاب غضبهم مع ذوبان كل قطعة في فمهم. ولا يكتمل الحديث عن الحلويات الفرنسية من دون التطرق إلى المكرون، وهو أحد أهم انواع البسكويت أو الحلوى، التي تشتهر بها أوروبا عموما وفرنسا خصوصا، حتى كادت تنسبها إلى نفسها. فإذا سألت أي أحد اليوم، فإنه سيقول ان أصلها فرنسي، فقط لأن الشكل والمذاق تطورا على أياد فرنسية، الأمر الذي قد يستفز الإيطاليين، الذين، كما يدل اسمها، فهي حلوى ولدت في أراضيهم.
يقول فيليب أندريو، من "لاديريه" : أنا افضل النوع الفرنسي طبعا. فرغم ان هناك قصصا كثيرة عن أصله، إلا أنني اعتقد انه ولد في بلاطات الملوك الفرنسيين، وبالذات في عهد لويس السادس عشر، ومنذ ذلك الحين ظهرت عدة أشكال منه. وحتى إذا قارنت بين النوع الفرنسي وأي نوع آخر في العالم، فإن الفرنسي يتميز بأنه ناعم من الداخل و"مقرمش" من الخارج.
أما حسب المراجع التاريخية، فقد تم إنتاج معجنات المكرون الإيطالي لأول مرة في أحد الأديرة عام 1792، وجاء الاسم من الكلمة الإيطالية التي تعني "عجين" أو "معجنات" - لكن القصد من تسمية هذا النوع من الحلوى هو عجينة اللوز المحلاة، التي كانت تستعمل فيها نفس أدوات صناعة العجين وترقيقها.
وفي ما بعد انتقلت راهبتان إلى مدينة نانسي الفرنسية في إقليم اللورين (شمال شرق فرنسا) إبان الثورة الفرنسية، وهناك باشرتا بصنع المكرون وبيعه، وسرعان ما اشتهرتا هناك واشتهر إنتاجهما بالرغم من تغير طريقة تحضيره بمرور الوقت، واصبحت هذه الحلوى من أبرز الحلويات التي تتميز بها نانسي ومحيطها. ومن نانسي انتقلت إلى العاصمة باريس حيث بدأ مخبز "لادوريه" الباريسي في مطلع عقد الثلاثينات من القرن الماضي يبيع معجنات المكرون على شكل طبقتين مقببتين بينهما طبقة حشوة سكرية حلوة، وهكذا ولد الجيل الثاني، الفرنسي المنشأ الأكثر طراوة وحلاوة.
وانتشرت الحلوى المطورة في عموم فرنسا ومنها إلى كبريات مدن العالم. لكن مما لا شك فيه ان عاصمتها كانت هي باريس قبل ان تنطلق الى عواصم اوروبية اخرى، ولا بد للزائر إلى هذه العاصمة أن يتعرف على هذا النوع في واحد من مقاهي "لاديريه" La duree التي اصبح اسمها لصيقا بها، بل هذه المحلات هي من اعطتها صبغتها العالمية من خلال محلاتها المترامية في العديد من العواصم الأوروبية، بواجهاتها المنمقة المطلية باللون الأخضر الفستقي الخفيف.
ففي هذه المقاهي، يمكن احتساء فنجان من القهوة أو الشاي مع مجموعة مشكلة من هذه الحلويات. بيد أن القول بأنها حلوى ترافق القهوة أو الشاي، لا يعني انها قاسية، وتحتاج إلى سائل يرافقها حتى يجعلها قابلة للقضم، بل العكس من ذلك فهي طرية للغاية وخفيفة جدا، تذوب في الفم مثل ذوبان السكر، لتفجر بداخلك مجموعة من الملذات تغريك بالمزيد، لكن المغزى من هذا أن حلاوتها تعزز مذاق أي مشروب يرافقها.
في الغالب تأتي بـ 12 مذاقاً ولوناً حسب النكهة أو الحشوة، وكل واحد من هذه المذاقات ينسيك الأول ويغريك بثالث ورابع. أهم مكوناتها هو اللوز، حيث كان يحضر في البداية بخلط اللوز المسحوق والسكر مع إضافة البيض المخفوق جيدا مثل الرغوة، وحسب الرغبة تضاف إليها الشوكولاته أو التمر أو الجوز والكاكاو وجوز الهند والنشاء وبذر السمسم وخلافها، تبعاً للمذاق المحلي.
فمحبو المكرون في أميركا الشمالية، مثلا، استهواهم تحضيره بجوز الهند، وفي الجزر البريطانية يميل كثيرون إليه مع جوز الهند والشوكولاته، أما في إسبانيا فيدخل البندق في وصفة صنعه. وثمة من يشير إلى أن منطقة شمال اليابان تصنع حلوى شبيهة شكلاً واسماً لكنها استعاضت فيها بالفستق عن اللوز. وفي فرنسا تعتمد الشوكولاته وحشوات اخرى لا تقل لذة، مثل القرفة وجوز الهند واللوز والمشمش والكشمش الأسود والقهوة والعرقسوس والفستق والبندق والتين والجوز والبرتقال وغيرها، بل ويمكن حسب الطلب ان تحضر لك مذاقا خاصا بك وبأشكال تعكس المناسبة التي تحتفل بها.
يقول فيليب أندريو: "في أواخر القرن السابع عشر، كان المكرون عبارة عن حلويات صغيرة الحجم وناشفة مكونة من طبقة واحدة مقببة، مثل ما يطلق عليه الفرنسيون اليوم "بيتي فور"، وفي بداية القرن الثامن عشر اضيفت طبقة ثانية. الطريقة كانت تعتمد آنذاك على سكب كأس من الماء على الورق الذي توضع فيها الحلوى قبل إدخالها الفرن، وهو نوع من الورق الذي تستعمله الجرائد، وكانت الغاية من هذا ان تلتصق الطبقتان ببعضهما.
وفي الخمسينات من القرن الماضي، توصل بيير ديفونتيني، وهو من عائلة المؤسس إيرنست لا ديريه،إلى الشوكولاته المذابة (غاناش) خلال رحلة إلى سويسرا، ومن هناك جاءته فكرة الصاق الطبقتين بهذا الخليط، ليولد المكرون الباريسي، الذي تطور في ما بعد باستعمال نكهات وحشوات اخرى. ويشير أندريو إلى أن اختيار نوع اللوز مهم جدا، إذ يجب ان يكون متكاملا ثم يطحن مع السكر الناعم، بعد ذلك يضاف إليه بياض البيض بعض ان يمزج جيدا مع السكر المطبوخ. أما السر فيكمن في طريقة المزج. فإن كانت ممزوجة بطريقة مبالغ فيها، فإنك ستحصل على مكرون يتفتت بسرعة، وإذا كان الخليط غير ممزوج بما فيه الكفاية، فإنك ستحصل على نوع اقرب إلى لزج أشبه بحلوى "الميرانغ".
كما أنه بعد تحضير وإعداد المكرون، يترك جانبا لمدة يومين قبل عرضه للبيع، ليلتصق ببعض وليحصل ذلك التمازج الساحر بين مذاق المكونات والتركيبة. والآن أصبحت مخابز "لاديريه" تتبع تقليدا لا تحيد عنه وهو ابتكار مذاق جديد في كل موسم، لكن تبقى المكونات المتعارف عليها والشكل الذي بدأه بيير ديفونتيني، هما الأساس، إلا إذا تطلبت بعض المناسبات اشكالا جديدة يكون الغرض منها اصلا استعراض مواهب الخباز وقدرته على التصميم، خصوصا بعد أن أصبحت علاقة "لاديريه" بالموضة علاقة وثيقة، والمكرون جزءاً لا يتجزأ من حفلاتهم ومناسباتهم. والفضل في هذا يعود إلى لذتها من جهة، وإلى عمليتها وسهولة تناولها من جهة ثانية، نظرا لحجمها الصغير وعدم اعتمادها على الكريمات.