أصدر الجنرال بادوليو الحاكم العام لليبيا توجيها عسكريا يحمل صفة سرى جدا إلى نائبة في برقة الجنرال غراتسيانى في صيف 1930، و قد ورد فيه ما يلى ..... و بناء عليه ، فانه من الضروري تجميع السكان المستسلمين في مكان ضيق بحيث يمكن مراقبتهم مراقبة فعالة و بحيث يكون هناك فراغ يراعى بمنتهى الدقة بينهم و بين الثوار
والدة صديقي ..... العبيدى عاشت بضع سنوات من طفولتها و بداية سنوات شبابها في معسكر اعتقال العقوبات بالبريقة . والدة صديقي توفت منذ سنوات عديدة، رحمها الله، و لكنني لازلت أذكر ما حكته لي من ذكريات أليمة بقيت معها طوال العمر من تلك التجربة المريرة و التي كانت نتاج فكر فاشستي مريض و متطرف في وحشيته و لا إنسانيته.
حكت لي والدة صديقي كيف جمع الايطاليون أفراد عائلتها و أفراد قبيلة العبيدات المتواجدين في منطقة القبة قرب مدينة البيضاء، و كيف رحلوا إلى منطقة طلميثة في معتقل تجميع مبدئي، و كيف هاجم رجال عمر المختار حراس المعتقل مرارا محاولين تحريرهم، و كيف أسرع الايطاليون إلى ترحيلهم سيرا على الإقدام باتجاه المعتقل النهائي، معتقل العقوبات بالبريقة و العقيلة. حدثتني المرحومة كيف سارت مع عائلتها لمدة ستين يوما، وأحاول أن أتخيل هذا الحشد البشرى المؤلف من رجال و نساء و شيوخ و أطفال، و معهم حيواناتهم من غنم و ابل، و ما يملكونه من متاع أبسط من البسيط و الذي يتكون من خيمة شعر و أغطية و بعض الملابس، يمشون حفاة و هم محاطون بحراس ارتريين أشداء غلاظ لديهم تعليمات بإطلاق النار على كل من يحاول الهروب، أحاول أن أتخيل هذا و يخدلنى الخيال، و لعل أقرب ما أستطيع أن أتصوره هو ما قراناه في القصص الديني من حوادث مماثلة مرت بالبشرية في قديم الزمان من هجرات القبائل القديمة..
حدثتني المرحومة بذكرياتها الأليمة تلك ، و كيف وصلوا إلى معتقل البريقة، و كيف استقبلهم الوحش الفاشستي أمر المعتقل باريلى و لعلها كانت تذكر ما ذكره شاهد عيان عنه من أنه كان يستقبل المرحلين مخاطبهم باللغة العربية ، قائلا
يا عبيدات نريد وضعكم فى منطقتين البريقة و العقيلة. و هناك تموتون فردا فردا حتى يتم استقرار ايطاليا بليبيا.
المرحومة وصلت إلى معتقل البريقة مع والديها و تسع من إخوتها، و تزوجت أحد أبناء عمومتها بالمعتقل، و عندما غادرت المعتقل كان معها أحد إخوتها فقط و زوجها و أخيه، أما بقية عائلتيهما فقد توفاهم الله. المرحومة كانت تذكر كيف كان يموت يوميا أربعون معتقلا على الأقل بسبب المرض و الجوع، و كيف كانوا يدفنون بسرعة قرب شاطئ البحر. كانت تذكر كيف يحدث أحيانا أن يضل أحد المعتقلين طريقه عائدا إلى خيمته ليلا بسبب انتشار أمراض العيون بالمعتقل و يقترب من السياج عن طريق الخطأ و كيف يرديه الحراس الاريتريون رميا بالرصاص، و كيف تكتشف جثته صباحا و تدفن قرب الشاطئ. كانت تذكر كيف يجلد المعتقلون و كيف يسكب على أجسادهم بعدها ماء البحر المالح، و كيف كان يشنق آخرون قرب الشاطئ يوميا كجزء من العقوبات الجماعية للقبيلة ، كانت تذكر رحمها الله كيف شغلت في أعمال السخرة و الأشغال الشاقة و تكسير الصخور يدويا لأشغال الطريق الساحلي الذي يمر بمنطقة البريقة و العقيلة.
حكت لي المرحومة الكثير و كان قلبي يضيق بالألم و الأسى، و يجعلني أتساءل هل تذكرنا نحن هولاء الليبيين كما يجب و هل أولينا هذه القضية حقها من البحث و الاهتمام، و هل لهولاء البؤساء الذين عانوا لغير ذنب جنوه مكان في ذاكرتنا الجماعية أو وعينا الجماعي؟
نحن نرى العالم اليوم يكفر في من يشكك في المحرقة اليهودية، ومن ناحية أخرى لا أدرى أن كان العالم يعرف ما يجب
أن يعرف عن معسكرات الاعتقال التي ابتدعها الطليان الفاشيست، و أكرر الفاشيست، في ليبيا لتجميع بادية برقة فيها حتى لا تتعاون مع المناضل عمر المختار و رجاله، هذه المعسكرات التي تكون قد أوحت إلى النازيين فيما بعد في ابتكار وسائلهم التصفوية و الغير إنسانية، ألم يكن موسولينى معلما و ملهما لهتلر؟
أنا لا أدعو للحقد أو الانتقام و لا للكراهية ، و لعله من المفيد أن أذكر هنا أن صديقي قد أتم دراسته العليا في الهندسة في ايطاليا و لم يكن ما سمعه من أمه من ذكريات قد أثر فيه سلبا بالنسبة لايطاليا اليوم و للايطاليين الشرفاء الذي يجب أن نذكر أن بعضهم من المناؤيين لموسولينى قد شارك الليبيين في منفاهم في جزيرة اوستيكا.
أنني أعنى فقط أن هناك عسف و جور و ظلم شديد و جرائم حرب قد ارتكبت في حق شريحة كبيرة من الليبيين، و مع أن حتى معظم الناجين منهم قد شملهم ألله برحمته ، إلا أنني متأكد بأن أولادهم و أحفادهم مازالوا يحملون هذه الذكريات في قلوبهم كجرح قديم لا براء منه. أن الحق لا يسقط بالتقادم و إن العدل لابد أن يقام و لو بعد حين.
و لكن ماهى معسكرات الاعتقال هذه؟ و لماذا؟
أن كل المعلومات المتيسرة لدينا هي التي استطاع مركز جهاد الليبيين ضد الاحتلال الايطالي تجميعها و هي ليست بالقليلة، و لكنني على قناعة بأن هناك الكثير المخفي لدى المصادر الايطالية.
فماذا لدى مركز الجهاد الليبي؟
كانت الخطة الايطالية تهدف باختصار و بشكل نهائي إلى عزل عمر المختار و عدم وصول أية مساعدة له من بادية برقة و أيضا إلى تفريغ البلد من سكانها في الجبل الأخضر و بمارماريكا، حتى يحل المعمرون الايطاليون محل سكان البلد الأصليين. فيما بعد سيستعمل هتلر اصطلاح الحل النهائي للمشكلة اليهودية.
و هكذا كانت هناك أنواع من المعتقلات على امتداد المنطقة الشرقية ابتداء من الدفنا ، مارماريكا، أى منطقة طبرق، معقل قبيلة العبيدات الرئيسي، و حتى جنوب بنغازي، موطن العواقير و الفواخر، مرورا بمواطن المنفة و البراعصة و الحاسة و الدرسة و العرفة و المسامير و غيرهم من قبائل الجبل الأخضر و سهل بنغازى، و انتهاء بالمغاربة و الزوية في منطقة اجدابيا.
كانت هذه المعتقلات وظيفيا تنقسم كما يلى:
1 – معتقلات التجميع: مثل معتقل عين الغزالة الدفنا الذي حشر به 8000 شخص ، و عاقبت السلطات الايطالية من يتخلف عن التوجه للمعتقل في ظرف ثلاثة أيام بالشنق و مصادرة أملاكه، و عندما حضروا جلدوا بالسوط 30 جلدة للرجل، و 15 جلدة للنساء و الأطفال، و كأن هذا تسخين فاشيستى. و بعد استمرار هجوم المجاهدين على المعتقل لتحرير المعتقلين اقتيدوا مشيا على الأقدام إلى معتقلات دائمة أخرى حسب التصنيفات، و كان هناك معتقل تجميع أخر بطلميثة.
2 – المعتقلات المسيجة: و هي أهون المعتقلات – وفى الهم ماتختار- حيث ترك المعتقلون قرب مواطنهم الأصلية محاطين بسياج و حرس دائم، أي داخل سجن كبير تحت المراقبة الدائمة و المستمرة مع تقييد حرية التنقل إلا بتصريح عسكري و هذا يشمل الليبيين المجندين من قبل الايطاليين، و هذه المعسكرات مثل مناطق شحات و الابيار، وقد وجدت مناطق بهذا الشكل في المناطق الغربية كذلك.
3 – معتقلات المرحلين: و هي المعتقلات التي أنشئت في مناطق صحراوية معزولة مثل سلوق و المقرون جنوب مدينة بنغازي، و ضمت داخل سياجها و أسلاكها الشائكة قبائل مرحلة بالكامل من مناطق أخرى، و لكنها كما يبدو تبقى مصنفة أقل خطرا من أن ترسل إلى معتقل العقوبات.
4 – معتقل العقوبات: و هو الذي خصص له المنطقة الأكثر انعزالا و الأشد وحشة و الاكثر حرارة، و هي منطقة البريقة و العقيلة. منطقة صحراوية منبسطة لا تصلح للاختفاء و لا للهروب و لا للحياة، و ليس بها من أسباب الحياة ما يذكر. لا شجر و لا ماء، بل صحراء قاحلة جرداء. و هنا جمع أقارب المجاهدين و المشكوك في ولائهم و المحتمل أن
يصبحوا مجاهدين و من لا يعجبوا المصنف الفاشيستى أثناء الفرز، و لندع الأرقام تتكلم.
أكثر الأرقام تفاؤلا تقول بأن المعتقلين في كل معسكرات الاعتقال المختلفة بلغ عددهم حوالي 120،000 معتقل و قد قضى على نصفهم على الأقل بسبب الجوع و المرض أو العقوبات و الإعدامات الجماعية و أكثر هؤلاء من معتقل العقوبات بالبريقة و العقيلة.
و قد تم إقفال هذه المعتقلات في سنة 1934 حيث جمع جميع المعتقلين بمعتقلات البريقة و العقيلة و المقرون و سلوق و حشروا في معتقل سلوق ثم نقلوا إلى المرج مشيا على الإقدام و إلى نقطة الانطلاق الأولى بطلميثة. و من تبقى من الاهالى أمروا بالتوجه إلى مناطقهم الأصلية في الدفنا – مارماريكا – و طبرق و درنة و شحات و البيضاء، أما أهالي المرج و الابيار فقد اخلي سبيلهم قبل ذلك بقليل. و قد حدث هذا نتيجة للتوجه الجديد في السياسة الفاشستية التي هدفت إلى استقطاب الليبيين و تجنيدهم لحرب ايطاليا في الحبشة حيث جند ما يقارب من 40،000 ليبيي و زج بهم في حرب لا ناقة لهم فيها و لا جمل