ذكرى ثورة 17 فبراير

بعد تونس ومصر، تحيي ليبيا بدورها الذكرى الاولى لثورتها الشعبية التي قطعت مع أكثر من أربعين عاما من نظام القذافي الذي جعل ليبيا مزرعة خاصة بعد أن سلب أهلها أو على الاقل أولئك الذين رفضوا التواطؤ معه، حقهم المشروع في الحياة بحرية وكرامة. ولا شك أن الدور سيأتي قريبا على سوريا والبحرين وغيرها من الدول لتضيء أول شموع ثورتها وتعلن للعالم إحياء هذه الذكرى الاولى لانتفاضة الشعوب المقهورة على الظلم والاستبداد والفساد...

ولكن ليس من دون التوقف طويلا لتأمل ما تواجهه هذه الثورات من مخاطر وتحديات مشتركة أو منفردة كل منها حسب البيئة التي منها اندلعت وفيها امتدت ونشأت على أمل أن تؤتي ثمارها وتبلغ الاهداف التي كانت حملتها ودفعت لأجلها الشعوب الكثير من دماء وأرواح أبنائها وشهدائها..

صحيح أن لا احد اليوم بإمكانه أن يجزم بما ستؤول اليه الثورات العربية، إذ وبرغم الغموض الذي يلف المشهد السياسي ليبلغ درجة القتامة ويدعو الى التشاؤم أحيانا كثيرة، وبرغم التفاوت الحاصل في حجم وتعقيدات التحديات الامنية والمخاطر الاقتصادية وامتداد شبح البطالة والركود وغياب الاستثمارات، فإنه يكاد يكون من المستحيل رصد حصيلة مشتركة وجامعة للثورات العربية أو الاتفاق على وصفة لتحصينها ازاء مختلف المحاولات لإجهاضها وتحويلها الى مصدر لإثارة المخاوف في النفوس بدل أن تكون منبعا لإحياء الامل أو الدفع للاعتقاد بأنها منعرج تاريخي حاسم في حياة الشعوب للانعتاق من كفن الاموات الذي يلفها والارتقاء الى درجة الاحياء.

لقد اعتبر المفكر محمد فخرو أن الثورات العربية كائن حي بمعنى أنها قابلة لكثير من التطورات في الاتجاهين كما اعتبر المفكر هشام جعيط ان الثورات يمكن أن تفشل, ومن هذا المنطلق فان هذه الذكرى الاولى للثورات العربية لا يمكن الا أن تكون مناسبة لتدارك ما يجب تداركه ومراجعة ما يجب اصلاحه لتصحيح مسار الثورات وتجنيبها مخاطر الانزلاق الى الفوضى المدمرة نتيجة ما تسعى اليه تلك النفوس المريضة والعقليات المفلسة الغارقة في الانانية من التكالب على تحقيق مصالحها الضيقة...

من حق الشعب الليبي أن يحيي ذكرى ثورته، ومن حق الشعب الليبي أن يفخر بما تحقق له وهو يستعيد حريته ويتخلص من ارث الكتاب الاخضر وايديولوجيات أصحابه المدمرة للإنسان بعد أن كبلته على مدى عقود وكتمت أنفاسه وانتزعت حقه في حرية الرأي والتعبير وصادرت منه روح المبادرة حتى اذا ما بدأ انتفاضته لكسر قيود الظلم تحول في رأي جلاده الى ارهابي مهلوس يسعى لنشر الفوضى والاستقواء بـ"القاعدة".

لا أحد بإمكانه في هذه الذكرى أن ينكر ما قدمه الليبيون من أجل استعادة حريتهم اذ يكفي اليوم أن اكثر من خمسين الف ليبي لا يزالون اليوم ضمن المفقودين لندرك الثمن الباهظ الذي قدمه الشعب الليبي للخلاص واستعادة انسانيته المسلوبة.

طبعا الامر لا يتعلق في هذه الذكرى بالبحث في شرعية أو تداعيات أو مبررات تدخل الحلف الاطلسي وما يمكن أن تخفيه من أهداف أو أطماع آنية أو مستقبلية فقناعتنا أن الشعب الليبي وحده يملك حق التقييم فهو الذي كان يتحمل نيران وقذائف ميليشيات القذافي وهو الذي كان يقدم الشهداء والضحايا والتاريخ وحده سيسجل مبررات ذلك التدخل ومدى فشله أو نجاحه في تحديد المستقبل الذي يتطلع اليه..

ومهما تكن المخاطر التي تترصد اليوم الشعب الليبي فإن الاكيد أن ليبيا الغنية بشعبها وحضارتها وتاريخها قبل أن تكون غنية بثرواتها الطبيعية أو بنفطها الذي جعل صناع القرار في العالم يتوافدون عليها وينحنون أمام الطاغية ليكسبوا رضاه ويحققوا صفقات السلاح التي تكفل لهم الاستثراء على حساب مآسي الآخرين بما يعني بكل بساطة أنه اذا كان الشعب الليبي اضطر مكرها لطلب تدخل خارجي للقضاء على الظلم، فإن عليه أن يدرك اليوم أن بناء المستقبل الذي يريد وتحديد المصير الذي يتطلع اليه لن يتحقق الا بجهود الليبيين وسواعدهم وافكارهم...

القبلية وفوضى انتشار الاسلحة والميليشيات المسلحة كلها مخاطر قائمة ولا مجال لإنكارها أو التقليل من شأنها وسيكون بالإمكان مواجهتها تباعا ولكن ليس قبل توحيد الجهود وإلغاء منطق "البلطجة" من العقول والقبول بأن بناء المستقبل يستوجب اليوم وأكثر من أي وقت مضى تغليب الحكمة والمصلحة الوطنية العليا والوفاء لدماء وأرواح كل الشهداء.

فذكرى الثورة الليبية ذكرى لكل الثورات العربية...

بارك الله فيك على الطرح النورس

دمت بود