الزاوية صرخة الحرية وصمت الألم

لقد تثاقل قلمي كثيرا قبل أن يصبح طيعاً ليخط عبر حبره كلمات تترجم ما يجول في خاطري من مشاعر ويحيل تلك الأشجان المكنونة فى عمق الوجدان الى جمل ترتب في أحرف، كلماتها خلاصة لقصة مدينة عاشت لتعانق الحرية وتعتصر بصمتها مر الألم ولتعيد بتلك السطور المتتابعة رسم مشاهد وصور تجذرت ملامح أصحابها وتردد صدى أصواتهم ليمتد عبر عمق الذاكرة ولتستقر في نقطة الارتكاز فيها فتصبح ملاصقة لها محفورة في طياتها حتى إذا طال الزمن بها كان يكفى لإسترجاع ذكراها ترديد ذلك الصدى لتعود تلك الصور وتلك المشاهد كما لو أنها قد بعثت من جديد الى واقع الحياة، وكأن الذي يستذكرها يعيش ذات اللحظة وذات المشاعر، يعيش إتقاد الحماس وتوهج شعلته ويتذوق من جديد حلاوة الإحساس ونشوته، يردد ذات العبارات بذات الصوت وذات الصدى العالي الذي تردد إثر صرخته، تلهث أنفاسه وتتلاحق خفقات فؤاده وكأنه يعيشها الآن، وكذلك تتمثل له الصور بذات الملامح وتكاد أصوات أصحابها تقرع سمعه بصداها تلك لحظة الرجوع الى الذاكرة الى موقع الحدث ومسرح الحياة الذي أسدل فيه ستارها على أكثر مشاهدها الدراماتيكية يوم امتزجت فيها لحظة طلب الحياة باغتيالها بيد الغدر حيث خيم الموت على المكان واستبدلت ألوان الأمل القزحية بلون قاني سال وبغزارة حتى اصطبغت به حيطان وجدران المدينة وازدحمت فى أرجاء السماء مواكب الأطياف الصاعدة وعبقت بين طبقاتها روائح مسكهم الزكية، أما على مسرح شوارعها وأزقتها فقد كان صمت الأنين يختزل في غصاته كل الحكايا والقصص، هكذا كانت الصورة وهكذا هو المشهد وهكذا كانت المدينة الثائرة إنها {الزاوية} تلك البلدة الوادعة التى اتخذت لنفسها مكاناً متميزاً تميزت فيه عن غيرها، وأطلت بهدوء شامخ على بحرها الهادئ وقاربت وباعدت بينها وبين العاصمة {طرابلس} وكأن هذا التقارب والتباعد في المسافة مقدر لها لتكتب من خلاله تاريخاً جديداً كما كانت دائما فهي عبر صفحاتها الناصعة عرفت بعدم رضوخها لمن يسلط عليها سياط ظلمه ولم تركن الى التبعية يوماً، كان لها مع الطليان قصتها الخاصة إذ كان قدرها أن تكون من المراكز المهمة في نضال الليبيين الطويل وكانت دائما حاضرة بل وبارزة فى دورها الجهادي وعلى هذا عرف لها الايطاليون ذلك فوضعوها في أول أولياتهم فسعوا الى احتلالها وكسر شكيمة المجاهدين فيها إلا أن ذلك لم يتحقق لهم إلا بعد معاهدة صلح مع العثمانيين وعندها تركت تلك الباسلة لوحدها تواجه مصيراً قاتماً، وبيد الخيانة طعنت من الخلف بعد أن تخلت عنها الدولة العثمانية وكأن التاريخ يعيد نفسه بنفس السياق.

ولكن بأقنعة مختلفة هذه المرة والغازي مع الأسف لم يأتي من خلف البحار ولم تكن هذه المرة تواجه إحتلال بل كانت جريمتها الكبرى التى لم يغفرها لها الطاغية كونها أبت أن تبقى بعيدة عن كتابة تاريخ ليبيا الجديد كما أبى أصحابها أن يبقوا مجرد أصناماً أو خشبٌ مسندة وهم يرون ما يحدث في قلب الشرق ومدينة الانتفاضة {بنغازي} لقد زلزل نداء الواجب أرواحهم واهتزت لرياح الحرية قلوبهم الثائرة فكان على أثر هذا التلاحم خروجهم العفوي الذي صدحوا فيه بهتاف الأخوة {بالروح بالدم نفديك يا بنغازي} رددوه عالياً حتى وصل مداه الى القابع هناك وراء الجدران المحصنة فاخترقت فؤاده الفارغ قوة شعاراتهم وأُسقط في يديه حينما علم يقيناً بأن روابط الوطن التى عمل على تقطيعها عادت أقوى مما كان يتخيل وأن أهل المدينة القريبة من حصنه المنيع أصدق من أثبت هذا الرباط، لهذا كان الحقد عليها مضاعفاً، ومن جديد تركت لتواجه وحدها قرار الشرف الذي تعهدت به، قاوم الشرفاء فيها ورأيناها وهى تصارع الباطل بجبروته وشهد العالم بأسره تلك الملحمة التى كتبت بمدادٍ من ذهب، ومرة بعد مرة وكرة بعد أخرى أبت هذه المدينة أن تستسلم برغم عمق الألم وطعن من غدر وقلة النصير والمدد، برغم إستباحة الدور وهدم المساجد ونبش القبور، رغم رقص اللئام على جثث الشهداء لم تنحني ولم تقدم الطاعة والولاء، وبرغم الصمت الذي لفها بقسوته إلا أن إعصار الثورة بقى يثور في أعماق شرفائها ولأنها كذلك كان دائما يتجدد لها النداء {يا شباب الزاوية نبو ليلة ضاوية} وكانت تتوق لنشر ذلك الضياء الذي ينقشع معه ستار الظلم المدلهم، لقد كان العارفون بطبيعة هذه المدينة يعلمون أنها ستجعل من ضعفها قوة ومن صمت الألم صرخة ثورة وستنسج من خيوط أحزانها فجرها الأبلج وكان لها ذلك بعد صمود بطولي أنقطع نظيره في مسيرة هذه الثورة، واليوم وبعد كل هذه الذكريات بقيت كما هي وادعة بقوة ومعتزة بلا كبر وعظيمة بلا غرور أدت دورها كما ينبغي لها وبلا ضجيج أو مفاخرة، وضعت على جراحها الغائرة مرهم الصبر والصمت وأيقنت أن للحرية ثمناً يدفع ولا بد، وأن التاريخ لا تخرج فصول أبطاله إلا من رحم الآلام والتضحيات الجسام وهم كانوا كذلك، فهم أصدق من هتف وأشجع من ثبت فلهم ولهذه المدينة الصامدة كل الحب والامتنان.

بقلم/ كريمة أحمد

.bb.

اقتباس :

اهل الزاوية كانوا مثال للصمود والتضحية

،

اشكرك نورس على رروعة الطرح