نهاية عصرالعقيد معمر القذافي بقيت أصوات الثقافة والإبداع في ليبيا تتذكر
لحظات الفرح والحزن وراء القضبان في تلك الأوقات العصيبة التي ناضل فيها
المثقف الليبي عندما كانت الكتابة نفسها تهمة، وذاق من أجل ذلك مرارة السجن
الذي لم يثن البعض عن تخطي أسواره بالكتابة.
لم يتوقف النظام "البائد" عن حملات القمع منذ السبعينيات والثمانينيات
وحتى الثورة الأخيرة، وفي المقابل لم يتوقف المثقف الحر عن الإبداع حتى وسط
علبة إسمنتية صغيرة مقطوعة عن العالم.
|
الزبير: غير نادم على لحظة واحدة قضيتها في السجن (الجزيرة نت)
|
عذابات وقصائد
دخل
الشاعر راشد الزبير السجن عام 1970 بعد اشتراكه في محاولة فاشلة للإطاحة
بالقذافي، وبعد 17 عاما خرج ومعه قصائد وحكايات والكثير من آثار التعذيب.
ويقول الزبير "مارسوا ضدنا أبشع أنواع التعذيب، أقلها حرمان الأهل
والأصدقاء من زيارتنا". كتب الزبير المسرحية الشعرية والقصيدة والمقالة
الأدبية والدراسة النقدية والقصة، وقبل الشروع في الكتابة كان عليه البحث
عن مكان لإخفاء الورق والقلم.
ويشير إلى أنه حاول تهريب مجموعة من الأعمال أثناء زيارة عائلته، وانتهت
المحاولة بالقبض على النصوص في بوابة التفتيش، ودفع ثمن ذلك 35 يوما في
زنزانة انفرادية.
ويرى الزبير أن التجربة برمتها أضافت إلى حياته الكثير خاصة في البحث عن
ملامح النص النضالي، وحتى توثيق لحظة التفكير في تهريب النص بعيدا عن
رقابة السجان.
من جهته يتحدث الناقد رضا بن موسى للجزيرة نت عن جيله السبعيني، ويقول إنهم واجهوا تجربة المنع والاعتقال والسجن مبكرا.
وأشار إلى أن السجون الليبية استقبلت مع أبريل/نيسان 1973 -فيما عرف
بالثورة الثقافية- أعدادا كبيرة من النخب المثقفة من السياسيين والكتاب
"ولم تظهر تلك التجربة إلا قليلا أو في إشارات عابرة".
|
بوشويشة (يمين) والناقد رضا بن موسى (الجزيرة نت)
|
تخطي الأسوار
كانت تجربة قاسية
كما يقول بن موسى "في عدة سجون عانينا من التعذيب والعزلة ثم الإفقار
الفكري ولم يتبق لنا من زاد سوى قراءاتنا المتنوعة في الثقافة والفكر
والتجربة السياسية والأعمال الإبداعية الليبية العربية العالمية، بالإضافة
إلى إعادة السرد والحكي والقراءة لتجربتنا الحياتية الفردية والجماعية وحيث
كانت ذاكرتنا الجماعية نبع لا يستنزف".
ويضيف "تابعت مجمل كتابات رفاقي المبدعين وقرأت كتابات لسجناء في أقسام
أخرى للدكتور محمد المفتي وللقاصين عبد السلام شهاب وعمر الككلي وشعراء
العربية عبد الفتاح البشتي وعبد الرحمن الشرع ومحمد الفقيه صالح وعلي
الرحيبي وكتاب الشعر الليبي عبد العاطي خنفر والمبروك الزول وجمعة الحزر".
ويؤكد أنه كتب عنهم، معتقدا أن كتاباته إضافة ايجابية لحثهم على مزيد من
الإبداع لقهر السجن وتعميق إرادة الحرية التي ظلت جذوتها تضيء رغم السنوات
الـ12 التي قضيناها خلف قضبانه.
ويرى أن تلك الكتابات محاولة لتخطي
الأسوار والتلاحم مع الأهل والبلاد من أجل أن تكون أكثر عدلا وجمالا
وبهجة، فقد غمر الحلم الكتابة الإبداعية الليبية في السجن رغم الحرقة
والأسى، وناشدت التواصل مع الحبيبة ووجوه الأصدقاء والأهل وعايشت طفولة
حالمة بزمن جميل قادم.
ولا ينسى بن موسى محاولته إصدار صحيفة يومية في السجن تكتب على غلاف علب
السجاير اسمها "الشنقال" لأنها كانت تعلق على حبل تجفيف المناشف بالزنزانة
الجماعية.
وختم بالقول إن بعضهم استمر في الكتابة بعد السجن وتوقف البعض وخان
البعض الآخر قضية الحرية وهادنت أقلام وانحرفت أخرى "كان زمنا صعبا ولم يعد
قلمي مسهبا وصرت قليل الكتابة".
|
شرير: ما حدث معي ليس مؤلما بقدر ما عاشه أهل ليبيا (الجزيرة نت)
|
جراح الماضي
في الثورة الأخيرة
اعتقلت قوات القذافي الشاعر ربيع شرير من مدينته الزاوية، ولم يكتب منذ
تحريره في أغسطس/آب الماضي، لكنه يقول إنه عندما يقرأ كتابه "الأسير سيد
العالم" الذي كتبت نصوصه بين عامي 2002 و2007 وصدر في يناير/كانون
الثاني 2010 "أجد أنني وصفت جزءاً من تلك الحالة قبل أن أعايشها".
وفي اعتقاده أن السجن لا يوقظ المثقف بقدر ما يوقظ الإنسان "مررت
بزنزانتين، الأولى بحجم قبر، مظلمة يدخلها الهواء من أنبوب صغير في
السقف، الزنزانة الثانية كانت أكثر اتساعا يسكنها ستة من المعتقلين، وبها
نافذة عالية ودورة مياه صغيرة، أنام بالحمام أحيانا ليتسع الحيز لي
ولزملائي، عشت مفارقات غريبة".
قبل اعتقاله كان ربيع يطعم العصافير
في أقفاصها لكي يتفرج عليها، في الزنزانة الثانية صار يترك فتات الخبز
للعصافير على النافذة للتفرج عليه "ما حدث معي ليس مؤلما بقدر الألم الذي
عاشه أهل ليبيا عامة، أنانية القذافي جعلته يحرق الشعب ليبقى على رأس
البلد، الشعب الليبي انتصر في المعركة، ولكنه خرج مثخنا بالجراح".