في وطنٍ يحلم بالوطن … في دولة تبحثُ عما يسمى بالاستقلال … في نظامٍ قائمٍ على مِنح الدول المانعة … في كيان ليس له عاصمة … في مكان ما زال يسمى فلسطين …كنت في ذلك المكان .
أصّر والدي أن أُرافقه في زيارة صديق له من أيام طفولته لا طفولتي … ركبت السيارة وفي أثناء الطريق الذي يربط قريتنا بقرية صديقه والذي يخضع لسلطة الاحتلال …سألتُ والدي عن اسم صديقه …قال لي اسمه “أبو عايد”… اسمٌ لطالما ارتبط بعشق الأرض.
شجرُ الزيتون يحيط بالمنزل …انه منزل قديم … ندخل البيت ونجلس على المجالس التي أكل عليها الدهر …لكنها ما زالت على مستوى لائق لاستقبال الضيوف .
بالثوب المُطرز … واليدين المصبوغتين بالحناء … تُقبلُ امرأة طاعنة بالسن …إنها “أم عايد” …ننتظر قليلاً ليدخل “أبو عايد”… يمشي نحونا على عُكازتين ويحاول أن يُسند قامته المحنية ويرفع رأسه ويسرع من حركته ليُثبت لصديقه انه ما زال بصحة جيدة كما كان يعهده … يجلس “أبو عايد” نلقي عليه التحية …لكنه لم يسمعها …! فسمعه ثقيل.
بدأ الحديث يأخذ مسلكه ليعود بنا إلى الوراء عشرات السنين ويستذكر كلاً منهما الأيام الخوالي … تقاربت قلوبهم وطافت المشاعر… حتى بدأت العيون تتلألأ لتعلن عن نزول الدموع … لم يستطع “أبو عايد” أن يستمر بدور الشخص الذي لم يؤثر به الدهر … بدأ يشتكي من الزمن الذي جعله بهذا الحال بعد أن كان يعمل بالأرض مع صديقه بلا كلل أو ملل.
لم أعد احتمل هذا المشهد …؟ بدأت الغصة تزداد بي شيئاً فشيئاً …أزحتُ ناظري إلى ناحية أخرى …ليقع نظري على صورة شهيد…أزحت ناظري إلى ناحية أخرى لأرى خارطة فلسطين مُطرزة بألوان العلم الزاهية …معلقة في زاوية الجدار…مكتوب على أعلاها “عائدون” .
الجو حار … وحرارة اللقاء زادت الجو عما كان عليه …يدخل شابا صغيرا …اسمه “ثابت” … حفيد “أبو عايد” لم يمر الوقت الكثير حتى استأذنا للخروج وما زال “أبو عايد” يُصِرُ أن يكون الغداء عنده رغم بساطة حاله … لكن خرجنا ..!
عُدنا من حيث أتينا وبدأت دموعي بالنزول …؟ ليس حزنا على “أبو عايد” فكلنا “أبو عايد” وليس ألماً على الوطن…! فقد جفت دموع الوطن…؟! لكن من اجل ضابط إسرائيلي لم يتجاوز عمره عتبة الثلاثين …جاء من أقصى بلاد الشرق ليطلق قنبلة الغاز المُسيل للدموع في مخيم كتب على أحد جدرانه …”المخيم …جسر العبور إلى ارض الجدود”.