سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع/وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى
هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع والانصراف إلى عشاء احتفالي يليق بذكراك/
فلتأذن لي بأن أراك وقد خرجت مني وخرجت منك، سالماً كالنثر المصفى على حجر يخضر أو يصفر في غيابك.
ولتأذن لي بأن ألمك، واسمك، كما يلم السابلة ما نسي قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى.
ولنذهبن معاً أنا وأنت في مسارين: أنت، إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، في قاريء قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض.
وأنا، إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد.فليس على الشاعر من حرج إن كذب.وهو لا يكذب إلا في الحب، لأن أقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن.
أما الموت، فلا شيء يهينه كالغدر:اختصاصه المجرب.فلأذهب إلى موعدي ، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف اسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهواً.
ولأذهبن، بلا عكاز وقافية، على طريق سلكناه، على غير هدى، بلا رغبة في الوصول، من فرط ما قرأنا من كتب أنذرتنا بخلو الذرى مما بعدها، فآثرنا الوقوف على سفوح لا تخلو من لهفة الترقب لما توحي الثنائيات من امتنان غير معلن بين الضد والضد.
لو عرفتك لأمتلكتك، ولو عرفتني لامتلكتني، فلا أكون ولا تكون.
هكذا سمينا، بتواطؤ إيقاعي، ما كان بيننا من هاوية سفحاً.ونسبنا إلى كتب قرأناها عجزنا عن الوصول إلى ذروة تطل على عدم ضروري لاختبار الوجود يا صاحبي!
يا((أنا))ي النائم على بزوغ البياض من أبدية، وعلى تلويح الأبدية ببياض لا لون بعده.
فبأي معنى من معانيك أقيم الشكل اللائق بعبث أبيض؟وبأي شكل أحمي معناك من الهباء...ما دامت رحلتنا، أقصر من خطبة الكاهن في كنيسة مهجورة، في يوم أحد، لم يسلم فيه أحد من غضب الآلهة؟
لكنك مسجى أمام، أعني في كلامي الخالي من عثور الاستعارات على مصادرها، وعلى رابط خفي بين أرض متدينة، وسماء وثنية.
من هناك إلى هناك يرحل الغيم برفقة قمر لم يحرمنا افتضاح سره الصخري من تذكر حب سابق.
ولم يمنعنا جفاف القلب من مداواة أوجاع المفاصل بذكرى التمدد على العشب، تماماًً كما أنت مسجى أمامي في كلامي الذي لن يخذله غد شخصي كف عن الخداع، لا لأنه تأدب وتهذب، بل لأنه يحتضر الآن ويصير إلى خبر، لا عدو له ولا صديق...خبر عن مسافرين اثنين، أنت وأنا، لم يفترقا في مرآة أو طريق... لم يفترقا إلا لساعات يتأكدان خلالها من سطوة الأنثى على الذكر/حيث يرى المرء نفسه في حرائق البرق، كما هي، معافاة مصفاة من شوائب التشبيه بما ليس موتا يحي...وحياة تحيا على حصة العاشق من سخاء المودة بين المخلوق والخالق.
فلا جنة معلنة بالحواس وبالحدس سوى العاشقة،ولا جحيم إلا خيبة العاشق.
فلتأذن لي، إذاً، ونحن نفترق على هذا البرزخ، بأن أفسخ العقد المبرم بين عبث وعبث، فلا نعلم من انتصر منا ومن انكسر، أنا أم أنت أم الموت، لأننا لم نعترف من قبل، لننتصر، بأن العدو أذكى منا وأدهى، فلا شيء يغوي الهزيمة أكثر من مجافاة هذا الاعتراف، يا صاحبي المترف بالأوصاف النقيضة، المسرف في البحث عن عبث لا بد منه لتدريب النفس على التسامح، ولتحظى بنعمة التأمل في ماء يضحك في الغمازات، ويطير فراشات فراشات تخلق الشعر من كل شيء حي.
فالخفة، كالندى، قاهرة المعدن، وعذراء الزمن، هي التي تدرب الوحش على النفخ في النايات/
فلا تصالح شيئاً إلا هذا السبب المبهم، ولا تندم على حرب أنضجتك كما ينضج آب أكواز الرمان على منحدرات الجبال المنهوبة، فلا جهنم أخرى في انتظارك.
ما كان لك صار عليك/
وعليك أن تدافع عن حروف اسمك المفككة، كما تدافع القطة عن جرائها.
وعليك ما عليك:أن تدافع عن حق النافذة في النظر إلى العابرين، فلا تسخر من نفسك إن كنت عاجزاً عن البرهان، الهواء هو الهواء ولا يحتاج إلى وثيقة دم.
ولا تندم..لا تندم على ما فاتك، حين غفوت، من تدوين لأسماء الغزاة في كتاب الرمل، النمل يروي والمطر يمحو، وحين تصحو لا تندم لأنك كنت تحلم، ولم تسأل أحداً:هل أنت من القراصنة؟لكن أحداً ما سيسألك:هل أنت من القراصنة؟ فكيف تزود البديهة بالوثائق والبنادق، وفيها ما يكفيها من محاريث خشبية، وجرار من فخار، وفيها زيت يضيء وإن لم تمسسه نار، وقرآن، وجدائل من فلفل وبامية، وحصان لا يحارب/
فلا تعاتب أسلافك على ما أورثوك من براءة النظر إلى التلال بلا استعداد لتلقي الوحي من سماء خفيضة، بل لعد النجوم على أصابع يديك العشر.
فأنى لك أن تثبت البديهة بالبرهان، والبرهان متعطش لنهب البديهة تعطش القرصان إلى سفينة ضالة؟
البديهة عزلاء كظبي مطعون بالأمان، مثلك مثلك، في هذا الحقل المفتوح لعلماء الآثار المسلحين الذين لم يكفوا عن استجوابك:من أنت؟ فتحسست أعضاءك كلها، وقلت:أنا أنا.
قالوا:ما البرهان؟فقلت:أنا البرهان.فقالوا:هذا لا يكفي، نحتاج إلى نقصان.فقلت:أنا الكمال والنقصان.فقالوا:قل إنك حجر كي ننهي أعمال التنقيب، فقلت لهم:ليت الفتى حجر، فلم يفهموك/
وأخرجوك من الحقل.أما ظلك، فلم يتبعك ولم يخدعك، فقد تسمر هناك وتحجر، ثم أخضر كنبتة سمسم خضراء في النهار، وفي الليل زرقاء/
مهما نأيت ستدنو/ومهما قتلت ستحيا/فلا تظنن أنك ميت هناك/وأنك حي هنا/فلا شيء يثبت هذا وذلك إلا المجاز/المجاز الذي درب الكائنات على لعبة الكلمات/المجاز الذي يجعل الظل جغرافيا/والمجاز الذي سيلمك واسمك/فاصعد وقومك/أعلى وأبعد مما يعد تراث الأساطير لي ولك/اكتب بنفسك تاريخ قلبك/منذ إصابة آدم بالحب/حتى قيامة شعبك/واكتب بنفسك تاريخ جنسك/منذ اقتبست من البحر إيقاعه ونظام التنفس/حتى رجوعك حيا إلي/فأنت مسجى أمامي/كقافية غير كافية لاندفاع كلامي إليك/أنا المرثي والراثي/فكني كي أكونك/قم لأحملك/اقترب مني لأعرفك/ابتعد عني لأعرفك!