"دمشق" التي تضم بين ربوعها أروع وأقدم قصص التاريخ والحضارات الساحرة، تحتفظ أيضا بأولى قصص البشر على سطح الأرض جرت أحداثها في كهف سمي "مقام الأربعين"، حيث قتل "قابيل" أخاه "هابيل" ولازالت صخور المقام تروي تفاصيل تلك الحادثة عبر قصص وأساطير حولت المكان رغم صعوبة الوصول إليه، إلى مقصد للآلاف السياح والمتعبدين من مختلف الأديان.
موقع "eSyria" تعقب آثار صخور مقام "الأربعين" المسمى "مغارة الدم" تلك الفجوة القابعة ضمن تضاريس "قاسيون" ولا تحتاج لمشاهدتها عن بعد، إلا أن تقف لحظات بين ازدحام المشاة على ضفة نهر "بردى" مكان مروره تحت جسر السيد الرئيس، وتتأمل إطلالة شموخ الجبل، لتجد وسط ملامح تلك التعرجات تماماً، مقام "الأربعين" راقداً وشاهداً لتاريخ حقبة مرت من هنا، أعانه على طول البقاء أدراجه الألف التي توصل زواره إليه على ارتفاع 900 م عن المدينة.
بدأت جولتنا بالتوجه إلى حي "ركن الدين" ومع نهاية امتداد منطقة "الشيخ خالد" تستقبلك أولى أدراج "مغارة الدم" الألف، هناك كانت وكأنها بانتظارنا يتراوح عرض الواحدة منها بين المتر والاثنين، بخطى تسارعت حيناً وتثاقلت حيناً آخر صعدنا للوصول إلى مقصدنا، لنجد الشيخ "فتحي أحمد صافي" المسؤول عن المقام من قبل مديرية الأوقاف، مستقبلاً ومرحباً بضيوف المكان يخبر القادم بتفاصيل خبايا المغارة.
بداية الحديث معه كانت عن المكان وسبب تسميته بالأربعين، وعن ذلك يقول الشيخ "فتحي": «يعلو المغارة من الخارج أربعين محراباً، يرجعون إلى أنبياء يدعون "بالأبدال"، يقال أنهم كانوا رجالاً صالحين قاموا على حماية بلاد الشام، أتوا وتعبدوا في هذا المكان، وعندما حوصروا من قبل جنود الملك، شق الله تعالى لهم الجبل فخرجوا تاركين في هذا الشق الصخري القائم إلى هذا اليوم رائحة العنبر والمسك والطيب، ورمزاً لتواجدهم هنا نجد الأربعين محراباً، التي كانت سبب تسمية الجبل والمقام، ومما يؤكد ذلك حديث شريف عن "علي بن أبي طالب" يقول: "قال "رسول الله (ص)" الأبدال في الشام هم أربعون رجلاً كلما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلاً يسقي الغيث وينتصر على الأعداء ويصرف عن الشام بهم الأعداء"».
تشابهت ملامح الزوار لتعكس الخشوع والدهشة، فالنساء بمختلف معتقداتهن ارتدين حجاباً للرأس وزياً محتشماً يراعي قدسية المكان، أما همسات الزوار تدل بشكل قاطع على تعدد اللغات بين العربية، الفارسية، التركية، في المغارة التي كانت معبداً وثنياً من ثم تحولت إلى كنيسة، وعند دخول الإسلام إلى "دمشق" حظيت بمكانة دينية كبيرة لدى المسلمين مرتبطة بما ورد في القرآن الكريم عن قصة ولدي آدم عليه السلام، كما يخبرنا الشيخ "فتحي": «هناك ارتباط شديد من خلال الأحاديث والروايات بين "مغارة الدم" وقصة مقتل "هابيل" على يد أخيه الأكبر "قابيل"، فيروى في الكتب والأحاديث الدينية أنه هنا أراد "قابيل" و"هابيل" أن يقدما إلى ربهما قرباناً للتقرب منه، فتقبل الله تعالى من
"هابيل" ولم يتقبل من "قابيل"، وكان ذلك دافعاً ليقتل أخاه "هابيل"، ومن ثم ارتبك بفعلته ولم يدرك ما يفعله بالجثة التي احتفظ بها لفترة من الزمن، إلى أن أرسل الله تعالى إليه بغرابين قتل أحدهما الآخر ودفنه، فقام "قابيل" بنفس الطريقة بدفن أخيه "هابيل"، وهي قصة مروية في القرآن الكريم "سورة المائدة" /27-31/ : «وأتل علَيهِم نبأَ ابنَي آدم بِالحقِّ إِذ قَربا قُرْباناً فَتقبّلَ من أَحدهما ولَمْ يتَقبَل من الآخَر قَال لأقتلنَكَ قَال إِنَّما يتقبَلُ اللَّه من المتَقين. لَئنْ بسَطتَ إِلَيَّ يدَكَ لِتَقتُلَنِي ما أَنَا بِباسطٍ يَدِي إِلَيكَ لأَقتلَكَ إِني أَخَاف اللَّه ربَّ الْعَالَمين. إِني أرِيد أَنْ تَبُوءَ بِإِثمِي وَإِثمِكَ فَتَكُونَ من أَصحَاب النار وَذلكَ جَزاءُ الظَّالمين. فَطَوعَتْ لَهُ نَفسه قَتلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبحَ مِنْ الخَاسِرينَ. فَبَعَثَ اللَّه غرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُريه كَيفَ يُوَاري سَوأةَ أَخِيهِ قَالَ يا وَيْلَتَا أَعَجَزْت أَنْ أَكونَ مِثْلَ هَذَا الغُرابِ فَأواريَ سَوأةَ أَخِي فَأَصْبَحَ من النَّادمين».
من المعروف أن ضريح "هابيل" متواجد على سفح جبل بمقربة من مدينة "الزبداني"، ويقصده سنوياً الكثير من الناس.
من عجائب المغارة بقعة دم موجودة على صخورها منذ تلك العصور تجذب اليوم آلاف الأشخاص لرؤيتها وسماع قصتها التي حدثنا عنها الشيخ "فتحي" قائلاً: «يقال أن الأرض تشربت دم "هابيل" الذي قتل على يد أخيه، حينها لعنها النبي "آدم" وبعدها حرم الله تعالى على هذه الأرض أن تشرب دماً بعد هذا الدم، أما الصخرة التي تأخذ شكل فم فيقال أنها من شدة تعجبها فتحت فمها علها تبتلع "قابيل"، ومازالت الصخرة تحتفظ بتفاصيل واضحة للسان والأضراس، أما سقف الجبل فقد بكى حزناً على "هابيل"، من عين انبجست منه وماتزالت تقطر إلى اليوم».
وأضاف: « أما عن قصة آثار أصابع الكف المحفور في السقف فيقال أنها "لجبريل" عليه السلام، وذلك عن رواية تقول أنه في يوم من الأيام كان سقف المغارة سيسقط على أحد الأنبياء؛ فقام الملك "جبريل" عليه السلام بوضع كفه على سقف المغارة ليمنعه من السقوط، ومازالت أثر كفه موجوداً على سقف المغارة إلى هذا اليوم، وبجانبها حرف "الله" لفظ الجلالة محفورة في الصخر».
في الداخل يوجد محرابان أحدهما "لإبراهيم" والآخر "للخضر" عليهما السلام، عنهما يقول الشيخ: «يقال أن سيدنا "إبراهيم" و"الخضر" قاما بزيارة المكان والصلاة فيه، ولهذا نرى أن هناك مقامان لهما في المغارة، كما أنشئ على المغارة مسجداً صغيراً منذ قرون عديدة ورمم عدة
مرات من قبل وزارة الأوقاف، وإلى جانب المبنى من الخارج يوجد خزان قديم على شكل غرفة كبيرة تمتلئ بالماء أوقات هطول المطر».
لسيد "محمد عبد الكريم" من سكان المنطقة والذي كان في زيارة إلى المغارة، حدثنا عن أساطير حفظها بالتوارث عن أجداده تخص المغارة ويختلف بعضها عمّا دوّن في كتب وأبحاث التاريخ: «مغارة الدم لها قصص وروايات عديدة، ويزورها الناس من مختلف الجنسيات والأديان للتبارك بالماء الذي يدمع من الجبل "حسب الإعتقاد"، والقيام بالأدعية أمام المقامات الموجودة في الداخل، ويقال أن سبب تسمية المغارة بمغارة الدم هو أن الله سبحانه وتعالى أبقى أثر دم "هابيل" في الصخر ليكون عبرة للناس، ويسمى المكان "مقام الأربعين" أو مغارة الأربعين، لأن سيدنا "يحيى بن زكريا" أقام هو وأمه فيها أربعين عاماً، وأن الحواريين الذين أتوها مع "عيسى عليه السلام" كان عددهم أربعين، وقد أنشئ ضمن المسجد المحدث أربعين محراباً نسبة إلى تلك الروايات. النتيجة أن المكان له صبغة دينية معروفة وهي من الأماكن المقدسة في جبل "قاسيون"».
وخلال البحث في كتب التاريخ عن هذا المكان، نجد الأستاذ الراحل "محمد أحمد دهمان" مؤرخ "دمشق" كتب في إحدى مؤلفاته: «للجبال أثر كبير في التاريخ الديني، فجبل "سرنديب" هبط عليه "آدم" أبو البشرية، وسفينة "نوح" استوت على جبل "جودي"، والفتية الذين آمنوا بربهم أووا إلى الكهف في جبل "الرقيم"، و"موسى بن عمران" كلمه الله تعالى على جبل "طور"، و"عيسى" وأمه أويا إلى "الربوة"، و"جبريل" الملك جاء بالرسالة إلى سيدنا محمد عليه السلام في جبل "حراء"، واختبأ الرسول صلى الله عليه وسلم مع "أبي بكر" في جبل "ثور" حين لحق بهما كفار قريش، إذاً من الطبيعي أن تتأثر باقي الجبال بهذه القصص والحوادث فتنسج حولها الأحاديث والقصص وتصبغ بالصبغة الدينية المقدسة، وقد استطاعت "دمشق" أن تلفت أنظار العالم الإسلامي وأن تظهر بالمظهر المقدس حتى صارت رابع المدن المقدسة، واستأثر جبلها الخالد "قاسيون" بالحصة الكبرى من الصفات والقصص ومنها "مغارة الدم" وهي إحدى أهم المشاهد المقدسة في جبل "قاسيون"».
ويقول الفنان التشكيلي "فرج شماس" في نص كتبه عن المغارة باسم "بورتريه مكان": «لجبل "قاسيون" عند أهل دمشق مكانة مقدسة، فقد كان الجبل مكان سكنهم الأول منذ العصر الحجري القديم الأعلى، وهو مليء بالكهوف والمغاور التي عفا على بعضها الزمن أو خربتها يد الإنسان، حيث كان الجبل يشرف على بحيرة دمشق الكبرى، وفي
نحو منتصف الألف السابعة قبل الميلاد جفت البحيرة وانتقل الإنسان من كهوف الجبل إلى واحة دمشق، وقد توارث الدمشقيون قصصاً وحكايات نسبوها إلى الأنبياء والأولياء والصالحين، وخصوا جبل "قاسيون" وكهوفه التي كان يحتضنها بكثير منها، ولم يبق من آثارها المعروفة إلا كهف الأربعين ومغارة الدم».
يتابع "شماس": «تقع مغارة الأربعين وفي جوارها مغارة الدم، في الجهة الشرقية من ذروة الجبل، يضم رفات أربعين من الصالحين وتقول الحكاية أصابهم الجوع وكان لديهم رغيف واحد أخذ كل منهم يؤثر به صاحبه، حتى دار الرغيف على جميع ساكني المغارة من دون أن يأكله أحد منهم حتى ماتوا جميعاً جوعاً وبقي الرغيف، أما مغارة الدم فيقال بأن "قابيل" قتل أخاه "هابيل" في هذا المكان، وماتزال آثار الدماء بادية على شكل عروق من التراب الأحمر في الصخر وقد شيد لاحقاً مسجد ومقام بحفظ المغارتين».