إنه قتيبة بن مسلم الباهلي أحد ثلاثة كبار اقترنت أسماؤهم بالحركة التوسعية في مداها الأعظم في العهد الأموي (المرواني)، إلى جانب محمد بن القاسم الثقفي وموسى بن نصير، والتي شكّلت الفصل الثاني بعد منجزات العهد الراشدي الأول. كانت الخلافة الأموية، حينذاك، قد خرجت بصعوبة من محنتها، بعد سقوط الفرع السفياني المؤسس لها، واستعادت وحدتها السياسية في ظل شخصية المرحلة الجديدة عبدالملك بن مروان، مكتسبة معه سمة «الدولة» على مستوى الإدارة والاقتصاد، والعلاقات الخارجية بعد تنشيط الجبهات العسكرية، التي خمدت لسنوات، كانت الخلافة منصرفة خلالها إلى مواجهة أزماتها الداخلية. وما كاد يعمّ السلام على أرضها، حتى كانت الحملات تعود، وبصورة أكثر فاعلية، إلى وتيرتها السالفة، خصوصًا على الجبهة البيزنطية، معتمدة النظام المعروف بالشواتي والصوائف. وقد عكس ذلك - من دون شك - النزعة التوسعية للأمويين، منذ أن آلت إدارة الشام إليهم في العهد الراشدي، ودأب عاملها حينئذ (معاوية) على تحصين دفاعها برًا وبحرًا ضد الخطر البيزنطي.
الفتوحات الأموية
وهكذا ترسّخت التقاليد الحربية، وباتت الفتوح عنصرًا أساسيًا في برامج الخلفاء الأمويين الأوائل، تحدوهم إلى ذلك دوافع سياسية واقتصادية بما يوائم النمط الإمبراطوري لدولتهم، ولكن من دون أن يغيب عنها حافز الجهاد لدى قادة عظام كرّسوا حياتهم له. وإذا كانت جبهة الشمال قد واجهت صعوبات بعد فشل الحملة الأولى على القسطنطينية (49 هـ)، مصطدمة بالدفاعات البيزنطية المتبعة، إذ كانت جبهة الغرب قد تعثّرت في أعقاب معركة تهوده (63هـ)، حيث استشهد القائد الشجاع عقبة بن نافع الفهري، فإن الجبهة الشرقية لم تستكن منذ أن حقق العرب المسلمون انتصارهم الباهر في معركة نهاوند (21هـ) الحاسمة، فاتحة «الطريق إلى الانتشار في أرجاء الإمبراطورية الفارسية المتهادية.
لعل قتيبة كان من اكتشاف الحجاج، رجل السياسة والحرب والقبضة الحديدية في العراق والمشرق الإسلامي، شأن القائد الملهم الآخر محمد بن القاسم فاتح السند، إذ كلاهما غير معروف حينذاك، ولم تسبقه تجربة أو شهرة من قبل. فقد يكون انتماء القائدين للقبائل المضرية (القيسية)، التي تنتسب إليها «ثقيف» قبيلة «الحجاج» ما شجّع الأخير على اختيارهما بعد أن ضاق ذرعًا بالولاة اليمنيين في خراسان، لاسيما يزيد المعروف بصلفه وكبريائه، حتى أن عمر بن عبدالعزيز لم يخف تبرّمه - بعد أن أصبح خليفة - من أبناء الأسرة المهلبية الذين وصفهم بالجبابرة. ولم تكن «باهلة»، قبيلة قتيبة، معدودة بين القبائل الكبرى، وقد وصفها القلقشندي بأنها «حي من أعصر من قيس بن عيلان العدنانية».
أما قتيبة فقد انفرد ابن خياط بخبر عن مولده الذي وقع سنة ست وأربعين للهجرة، أي أنه كان قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره حين عيّنه الحجاج واليًا على خراسان قبيل وفاة الخليفة عبدالملك (86هـ). وكان لايزال عبر هذه السنين مغمورًا لا يريد له ذكر في المرويات التاريخية، مما يعني أنه لم يكن في دائرة السلطة، على الرغم من موالاة أسرته للخلافة الأموية. ولكن اختيار قتيبة لمنصب تنافس عليه رجال كبار، لم يأت مصادفة أو لمجرّد انتمائه للقيسية، بقدر ما كان لشخصيته القيادية من دور في ذلك، خصوصًا، إذا عرفنا أن مهمته تعدّت مجال الإداة إلى ساحات الحرب، التي كانت بانتظاره وراء حدود الولاية الصعبة، الأكثر اضطرابًا بالأزمات والتناقضات، فضلاً عن هواجس القلق إزاءها فيما بعد.