برقيات إلى الأحبة
الحب على المحبين فرض ، وبه قامت السماوات والأرض ولم يدخل جنة الحب ، لن ينال القرب ، بالحب عبد الرب ، وترك الذنب ، وهان الخطب واحتمل الكرب ، عقل بلا حب لا يفكر ، وعين بلا حب لا تبصر ، وسماء بلا حب لا تمطر ، وروض بلا حب لا يزهر ، وسفينة بلا حب لا تبحر .
بالحب تتآلف المجرة ، وبالحب تدوم المسرة ، بالحب ترتسم على الثغر البسمة ، وتنطلق من الفجر النسمة ، وتشدو الطيور بالنغمة ، أرض بلا حب صحراء ، حديقة بلا حب جرداء ، ومقلة بلا حب عمياء ، وأذن بلا حب صماء !
الحب هو بساط القربى بين الأحباب وهو سياج المودة بين الأصحاب :
شكا ألم الفراق الناس قبلي *** وروع بالنوى حي وميت
وأما مثل ما ضمت ضلوعي *** فأني ما سمعت ولا رأيت !!
بالحب ترضع الأم وليدها ، وتروم الناقة وحيدها ، بالحب يقع الوفاق ، وبالحب يعم السلام ، والمودة والوئام .
بالحب يفهم الطلاب كلام المعلم ، وبالحب يسير الجيش وراء القائد ويتقدم ، وبالحب تذعن الرعية ، ويعمل بالأحكام الشرعية ، وتصان الحرمات ، وتقدس القربات .
بيت لا يقوم على الحب مهدوم ، وجيش لا يحمل الحب مهزوم ، لكن أعظم الحب وأجله ما جاءت به الملة ، أجمل كلمة في الحب قول الرب : (يحبهم ويحبونه ) . فلا تطلب حبا دونه
ليس حبا قطعة معزوفة *** من يراع الشاعر المتنحب
ما ( قفا نبكي ) هو الحب ولا *** ظيبة البان وذكرى زينب
إنما الحب دم تتزفــه *** في سبيل الله خير القرب
أو دمـوع ثرة تبعثهـا *** سحرا أصدق من قلب الصبي
أو سجـود خاشع ترسمـه *** فوق الطين فاسجد واقرب
أحب امرؤ القيس فتاة ، وأحب أبو جهل العزى ومناة ، وأحب قارون الذهب ، وأحب الرئاسة أبو لهب ، فأفلسوا جميعا ! ، لأنهم أخطؤوا خطا شنيعا . أما حب بلال بن رباح فهو البر والصلاح ؛ سحب على الرمضاء ، فنادى رب الأرض والسماء ، وانبعث من قلبه ( أحد أحد ) ، لأن في القلب إيمانا كجبل أحد
إذا كان حب الهائمين من الورى
بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي
سرى قلبه شوقا إلى العالم الأعلى ؟!
الحب لا يعترف بالألوان ولا بالأوطان ، والدليل بلال وسلمان ؛ بلال أبيض القلب أسود البشرة ، فصار بالحب مع البررة ، وأبو لهب بالبغض ليس من أهل البيت ، وسلمان نال بالحب جائزة : ( سلمان من أهل البيت ! ) .
دعني من حب مجنون ليلى ، ومحبوب سلمى ، ومعشوق عفرا ، فلطالما لطخت بأشعارهم الطروس ، وضاقت
بأخبارهم النفوس ، وخدعت بقصائدهم الأجيال واتبعهم الضلال ، وحدثني عن أنباء الأنبياء ، وهم من أجل حب
الرب يهجرونه الأباء والأبناء ؛ فإبراهيم يتبرأ من أبيه ، ونوح من بنيه ، وامرأة فرعون تلغي بنفسها عقد النكاح ؛
لأن البقاء مع الكافر سفاح . هذا هو عالم الحب بتضحياته ، بأفراحه وأتراحه ، وهو حب يصلك برضوان من رضاه مطلب ، وعفوه مكسب .
والله ما نظرت عيني لغيركم
يا واهب الحب والأشواق والمهج
كل الذين رووا في الحب ملحمة
في آخر الصف أو في أسفل الدرج !
امرؤ القيس يصيح في نجد وقد غلبه الوجد ، ( قفا نبك )،
فإذا بكاؤه على الأطلال ، وإذا دموعه تسفح على الرمال ، وإنه هيام العقل بلا وازع ، وحيرة الإنسان بلا رادع ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يذوق الويلات ، ويعيش النكبات ، ثم ينادي مولاه في مناجاة وإخبات ، ويقول : " لك العتبى حتى ترضى " !.
لا تضع عمري بشعر طرفة العبد وهو يشكو الحب والصد ، حب ماذا يا هذا ؟ !. . أما علمت أن أحد الأنصار ، كان يقرأ (قل هو الله أحد ) بتكرار ، فسئل عن المقصود ، قال : لأن فيها مدح المعبود ، وأنا أحب تلك البنود ، فدخل الجنة بالمحبة ، لأن الله احبه ...
دعني أمسح فوق الروض أجفاني
فالنار موقدة من حر أشجاني
نسيت في حبكم أهلي ومنتجعي
فحبكم عن جميع الناس ألهاني !
شغلونا بالروايات الشرقية والمسرحيات الغربية ، ويل هذا الجيل ويله !.. سهر مع غراميات ألف ليلة وليلة ، وفي الذكر المنزل والحديث المبجل قصص الحب الصادقة ، والمعاني الناطقة ، ما يخلب اللب ، ويستميل القلب .
أخرجونا يا قوم من ظلمات عشق الأعراب ، والهيام في الأهداب ، فكل ما فوق التراب تراب ، الذي تطير له الأرواح ، وتهتز له الأشباح ، في ملكوت الخلود ، وعلى بساط رب الوجود .
بكت عيني غداة البين دمعا
وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بالدمع ضنت
بأن أغمضتها يوم التقينا
من كتاب الحب للدكتور الشيخ عايض القرني