صلاة الجمعة
زمن مشروعيّتها : 1 - شرعت صلاة الجمعة في أوّل الهجرة عند قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم
المدينة ، قال الحافظ ابن حجر : الأكثر على أنّها فرضت بالمدينة . وهو
مقتضى أنّ فرضيّتها ثبتت بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وهي مدنيّة ، وقال الشّيخ أبو حامد : فرضت
بمكّة ، وهو غريب .
ومن المتّفق عليه : « أنّ أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
بأصحابه ، كانت في قبيلة بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتّخذ القوم
لهم في ذلك الموضع مسجداً ، وذلك عندما قدم إلى المدينة مهاجراً » .
غير أنّه ثبت أيضاً « أنّ أسعد بن زرارة أوّل من جمع النّاس لصلاة الجمعة
في المدينة ، وكان ذلك بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم له قبل أن يهاجر من
مكّة » ، فقد ورد عن كعب بن مالك أنّه « كان إذا سمع النّداء ترحّم لأسعد
بن زرارة ، وكان يقول : إنّه أوّل من جمّع بنا في هزم النّبيت من حرّة بني
بياضة في نقيع يقال له : نقيع الخضمات » .
فمن رجّح أنّها فرضت بالمدينة بعد الهجرة ، استدلّ بأنّه صلى الله عليه
وسلم لم يقم أيّ جمعة في مكّة قبل الهجرة ، ومن قال : إنّها فرضت بمكّة قبل
الهجرة استدلّ بأنّ الصّحابة قد صلّوها في المدينة قبل هجرته - عليه
الصلاة والسلام - فلا بدّ أن تكون واجبةً إذ ذاك على المسلمين كلّهم سواء
من كان منهم في مكّة وفي المدينة ، إلاّ أنّ الّذي منع من أدائها في مكّة
عدم توافر كثير من شرائطها . قال البكريّ : فرضت بمكّة ولم تقم بها ؛ لفقد
العدد ، أو لأنّ شعارها الإظهار ، وكان صلى الله عليه وسلم مستخفياً فيها .
وأوّل من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من
المدينة .
الحكمة من مشروعيّتها : 2 - قال الدّهلويّ : إنّه لمّا كانت إشاعة الصّلاة في البلد بحيث يجتمع لها
أهلها متعذّرةً كلّ يوم ، وجب أن يعيّن لها ميقات لا يتكرّر دورانه بسرعة
حتّى لا تعسر عليهم المواظبة على الاجتماع لها ، ولا يبطؤ دورانه بأن يطول
الزّمن الفاصل بين المرّة والأخرى ، كي لا يفوت المقصود وهو تلاقي المسلمين
واجتماعهم بين الحين والآخر . ولمّا كان الأسبوع قدراً زمنيّاً مستعملاً
لدى العرب والعجم وأكثر الملل ، - وهو قدر متوسّط الدّوران والتّكرار بين
السّرعة والبطء - وجب جعل الأسبوع ميقاتاً لهذا الواجب .
فرضيّتها :
دليل الفرضيّة :
أمّا الكتاب فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي
لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } قيل
: " ذكر اللّه " هو صلاة الجمعة ، وقيل : هو الخطبة ، وكلّ ذلك حجّة ؛
لأنّ السّعي إلى الخطبة إنّما يجب لأجل الصّلاة ، بدليل أنّ من سقطت عنه
الصّلاة لا يجب عليه السّعي إلى الخطبة ، فكان فرض السّعي إلى الخطبة فرضاً
للصّلاة ؛ ولأنّ ذكر اللّه يتناول الصّلاة ويتناول الخطبة من حيث إنّ كلّ
واحد منهما ذكر اللّه تعالى .
وقد استدلّ الإمام السّرخسيّ - أيضاً - بالآية المذكورة من وجهين :
الوجه السّابق ، ووجه آخر حيث قال : اعلم أنّ الجمعة فريضة بالكتاب
والسّنّة ، أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ } والأمر بالسّعي إلى الشّيء لا يكون إلاّ لوجوبه ،
والأمر بترك البيع المباح لأجله دليل على وجوبه أيضاً .
وحكى الخطّابيّ عن بعض الفقهاء : أنّ صلاة الجمعة فرض على الكفاية ، وقال
القرافيّ : هو وجه لبعض أصحاب الشّافعيّة .
وأمّا السّنّة : فالحديث المشهور ، وهو ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه
وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه تعالى قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في
يومي هذا ، في شهري هذا ، من عامي هذا إلى يوم القيامة ، فمن تركها في
حياتي ، أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها أو جحوداً لها بحقّها
فلا جمع اللّه له شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة
له ، ولا حجّ له ، ولا صوم له ، ولا برّ له حتّى يتوب فمن تاب تاب اللّه
عليه» وحديث : « الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة إلاّ أربعةً : عبد
مملوك ، أو امرأة ، أو صبيّ ، أو مريض » وحديث : « رواح الجمعة واجب على
كلّ محتلم » .
3 - صلاة الجمعة من الفرائض المعلوم فرضيّتها بالضّرورة ، وبدلالة الكتاب
والسّنّة ؛ فيكفر جاحدها . قال الكاسانيّ : الجمعة فرض لا يسع تركها ،
ويكفر جاحدها والدّليل على فرضيّتها : الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة .
فرض وقت الجمعة :
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إنّ فرض وقت الجمعة في الأصل إنّما هو الظّهر ،
إلاّ أنّ من تكاملت فيه شرائط الجمعة الآتي ذكرها فإنّه مأمور بإسقاطه
وإقامة الجمعة في مكانه على سبيل الحتم ، أمّا من لم تتكامل فيه شرائطها ،
فيبقى على أصل الظّهر إلاّ أنّه يخاطب بأداء الجمعة في مكانها على سبيل
التّرخيص ، أي فإذا أدّى الجمعة رغم عدم تكامل شروط وجوبها عليه سقط عنه
الظّهر بذلك . على أنّ لكلّ من محمّد وزفر أقوالاً أخرى في كيفيّة فرضيّة
الجمعة .
4 - ذهب الأئمّة الثّلاثة - مالك والشّافعيّ في مذهبه الجديد وأحمد - إلى
أنّ الجمعة فرض مستقلّ ، فليست بدلاً من الظّهر ، وليست ظهراً مقصوراً .
واستدلّ الرّمليّ لكونها صلاةً مستقلّةً : بأنّه لا يغني الظّهر عنها ولقول
عمر - رضي الله عنه - : « الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر على لسان نبيّكم
صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى » .
قال السّمرقنديّ : من صلّى الظّهر في بيته وحده - وهو غير معذور - فإنّه
يقع فرضاً في قول أصحابنا الثّلاثة - أبي حنيفة وصاحبيه - خلافاً لزفر فإنّ
عنده لا يجوز الظّهر .
وفي المذاهب الأخرى لا تجزئه صلاة الظّهر ويلزمه حضور الجمعة ، فإن حضرها
فذاك وإلاّ بأن فاتته لزمه قضاء الظّهر حينئذ . قال أبو إسحاق الشّيرازيّ
في المهذّب : وأمّا من تجب عليه الجمعة ، ولا يجوز له أن يصلّي الظّهر قبل
فوات الجمعة ، فإنّه مخاطب بالسّعي إلى الجمعة ، فإن صلّى الظّهر قبل صلاة
الإمام ففيه قولان : قال في القديم : يجزئه ؛ لأنّ الفرض هو الظّهر .. وقال
في الجديد : لا تجزئه ، ويلزمه إعادتها وهو الصّحيح .
وقال ابن قدامة في المغني : من وجبت عليه الجمعة إذا صلّى الظّهر قبل أن
يصلّي الإمام الجمعة لم يصحّ ، ويلزمه السّعي إلى الجمعة إن ظنّ أنّه
يدركها ؛ لأنّها المفروضة عليه .
5- وفائدة الخلاف تظهر فيما لو صلّى الظّهر في بيته وحده قبل فوات الجمعة -
وهو غير معذور ، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يصحّ ظهره ويقع فرضاً ؛ لأنّه
أدّى فرض الوقت الأصليّ فيجزئه .
شروط صلاة الجمعة :
6 - لصلاة الجمعة ثلاثة أنواع من الشّروط .
النّوع الأوّل : شروط للصّحّة والوجوب معاً،
والثّاني : للوجوب فقط ،
والثّالث : للصّحّة فقط.
والفرق بين هذه الأنواع الثّلاثة من الشّروط ، أنّ ما يعتبر شرطاً لصحّة
صلاة الجمعة ووجوبها معاً ، يلزم من فقده أمران اثنان : بطلانها ، وعدم
تعلّق الطّلب بها .
وما يعتبر شرطاً للوجوب - فقط - يلزم من فقده عدم تعلّق الطّلب وحده ، مع
ثبوت صحّة الفعل ، وما يعتبر شرطاً للصّحّة فقط يلزم من فقده البطلان مع
استمرار المطالبة به .
النّوع الأوّل شروط الصّحّة والوجوب معاً وتنحصر في ثلاثة :
قال في المبسوط : وظاهر المذهب في بيان حدّ المصر الجامع : أن يكون فيه
سلطان ، أو قاض لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام .
ويلحق بالمصر ضاحيته أو فناؤه ، وضواحي المصر هي القرى المنتشرة من حوله
والمتّصلة به والمعدودة من مصالحه ، بشرط أن يكون بينها وبينه من القرب ما
يمكّن أهلها من حضور الجمعة ، ثمّ الرّجوع إلى منازلهم في نفس اليوم بدون
تكلّف .
وعلى هذا ، فمن كانوا يقيمون في قرية نائية ، لا يكلّفون بإقامة الجمعة ،
وإذا أقاموها لم تصحّ منهم . قال صاحب البدائع : المصر الجامع شرط وجوب
الجمعة ، وشرط صحّة أدائها عند أصحابنا ، حتّى لا تجب الجمعة إلاّ على أهل
المصر ومن كان ساكناً في توابعه ، وكذا لا يصحّ أداء الجمعة إلاّ في المصر
وتوابعه .
فلا تجب على أهل القرى الّتي ليست من توابع المصر ، ولا يصحّ أداء الجمعة
فيها .
ولم تشترط المذاهب الأخرى هذا الشّرط .
7 - الشّرط الأوّل : اشترطه الحنفيّة ، وهو أن يكون المكان الّذي تقام فيه "
مصراً " والمقصود بالمصر كلّ بلدة نصب فيها قاض ترفع إليه الدّعاوى
والخصومات .
فأمّا الشّافعيّة : فاكتفوا باشتراط إقامتها في خطّة أبنية سواء كانت من
بلدة أو قرية ، قال صاحب المهذّب : لا تصحّ الجمعة إلاّ في أبنية يستوطنها
من تنعقد بهم الجمعة من بلد أو قرية .
وأمّا الحنابلة : فلم يشترطوا ذلك أيضاً ، وصحّحوا إقامتها في الصّحاري ،
وبين مضارب الخيام . قال صاحب المغني : ولا يشترط لصحّة الجمعة إقامتها في
البنيان ويجوز إقامتها فيما قاربه من الصّحراء .
وأمّا المالكيّة : فإنّما شرطوا أن تقام في مكان صالح للاستيطان . فتصحّ
إقامتها في الأبنية ، أو الأخصاص ؛ لصلاحها للاستيطان فيها مدّةً طويلةً .
ولا تصحّ في الخِيَم لعدم صلاحيّتها لذلك في الغالب .
قال في الجواهر الزّكيّة في تعداد شروطها : موضع الاستيطان ، ولو كان
بأخصاص لا خيم ، فلا تقام الجمعة إلاّ في موضع يستوطن فيه بأن يقيم فيه
صيفًا وشتاءً .
8 - ويترتّب على هذا الخلاف : أنّ أصحاب القرى الّتي لا تعتبر تابعةً لمصر
إلى جانبها يجب عليهم - عند غير الحنفيّة - إقامة الجمعة في أماكنهم ، ولا
يكلّفون بالانتقال لها إلى أيّ بلدة كبيرة أخرى من حولهم .
أمّا في المذهب الحنفيّ : فلا يكلّفون بإقامة الجمعة في مثل هذه الحال ،
وإذا أقاموها لم تصحّ منهم . ويجب عليهم الانتقال إلى البلدة المجاورة إذا
سمع منها الأذان .
هذا إذا كان ثمّة إمام أو نائب عنه في البلدة الّتي تقام فيها الجمعة ،
فإذا لم يوجد أحدهما ، لموت أو فتنة أو ما شابه ذلك ، وحضر وقت الجمعة كان
للنّاس حينئذ أن يجتمعوا على رجل منهم ليتقدّمهم فيصلّي بهم الجمعة . 9 - الشّرط الثّاني : واشترطه الحنفيّة ، إذن السّلطان بذلك ، أو حضوره ،
أو حضور نائب رسميّ عنه ، إذ هكذا كان شأنها على عهد رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم وفي عهود الخلفاء الرّاشدين .
أمّا أصحاب المذاهب الأخرى فلم يشترطوا لصحّة الجمعة أو وجوبها شيئاً ممّا
يتعلّق بالسّلطان ، إذناً أو حضوراً أو إنابةً . 10 - الشّرط الثّالث من شروط صحّة الجمعة ووجوبها معاً : دخول الوقت ،
ووقتها عند الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - هو وقت الظّهر ،
فلا يثبت وجوبها ، ولا يصحّ أداؤها إلاّ بدخول وقت الظّهر ، ويستمرّ وقتها
إلى دخول وقت العصر ، فإذا خرج وقت الظّهر سقطت الجمعة واستبدل بها الظّهر ؛
لأنّ الجمعة صلاة لا تقضى بالتّفويت . ويشترط دخول وقت الظّهر من ابتداء
الخطبة ، فلو ابتدأ الخطيب الخطبة قبله لم تصحّ الجمعة ، وإن وقعت الصّلاة
داخل الوقت .
وذهب الحنابلة إلى أنّ أوّل وقت صلاة الجمعة هو أوّل وقت صلاة العيد لحديث
عبد اللّه بن سيدان : « شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف
النّهار » ، ولحديث جابر : « كان يصلّي الجمعة ثمّ نذهب إلى جمالنا
فنريحها حين تزول الشّمس » وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعد ومعاوية -
رضي الله عنهم - أنّهم صلّوا قبل الزّوال ولم ينكر عليهم ، وفعلها بعد
الزّوال أفضل .
النّوع الثّاني من الشّروط وهي :
شروط الوجوب فقط :
تتلخّص جملة هذه الشّروط في خمسة أمور ، وذلك بعد اعتبار الشّروط الّتي
تتوقّف عليها أهليّة التّكليف بصورة عامّة ، من عقل وبلوغ :
11 - الأوّل : الإقامة بمصر : فلا تجب على مسافر . ثمّ لا فرق في الإقامة
بين أن تكون على سبيل الاستيطان أو دون ذلك ، فمن تجاوزت أيّام إقامته في
بلدة ما الفترة الّتي يشرع له فيها قصر الصّلاة وجبت عليه صلاة الجمعة
وإلاّ فلا على التّفصيل المبيّن في ( صلاة المسافر ) .
ودليل ذلك ما رواه جابر - رضي الله عنه - : قال رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فعليه الجمعة إلاّ مريض ، أو
مسافر ، أو امرأة ، أو صبيّ ، أو مملوك ، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى
اللّه عنه واللّه غنيّ حميد » . قال السّرخسيّ : والمعنى : أنّ المسافر
تلحقه المشقّة بدخول المصر وحضور الجمعة ، وربّما لا يجد أحداً يحفظ رحله ،
وربّما ينقطع عن أصحابه ، فلدفع الحرج أسقطها الشّرع عنه .
أمّا من كان مقيماً في غير مصر ، كالقرى والبوادي ، فإن كان مكانه قريباً
من بلدة هناك وجب عليه الذّهاب إليها وإقامة الجمعة فيها ، وإلاّ لم تجب
عليه .
والمفتى به في ضابط القرب : أن تصل أصوات المؤذّنين إلى ذلك المكان عندما
يؤذّنون في أماكن مرتفعة وبأصوات عالية مع توسّط حالة الجوّ من حيث الهدوء
والضّجيج .
وهذا على ما سبق بيانه في الفقرة من اشتراط الحنفيّة المصر خلافاً لغيرهم .
12 - الشّرط الثّاني : الذّكورة : فلا تجب صلاة الجمعة على النّساء .
وذكر صاحب البدائع حكمة ذلك فقال : وأمّا المرأة فلأنّها مشغولة بخدمة
الزّوج ، ممنوعة من الخروج إلى محافل الرّجال ، لكون الخروج سبباً للفتنة
ولهذا لا جماعة عليهنّ أيضاً . 13 - الشّرط الثّالث : الصّحّة : ويقصد بها خلوّ البدن عمّا يتعسّر معه -
عرفاً - الخروج لشهود الجمعة في المسجد ، كمرض وألم شديد ؛ فلا تجب صلاة
الجمعة على من اتّصف بشيء من ذلك .
وألحق بالمريض ممرّضه الّذي يقوم بأمر تمريضه وخدمته ، بشرط أن لا يوجد من
يقوم مقامه في ذلك لو تركه .
غير أنّها تجب على المكاتب والمبعّض وتجب على الأجير ، بمعنى أنّه لا يجوز
للمستأجر منعه منها ، فإذا ترك العمل لصلاتها ، وكان المسجد بعيداً عن مكان
عمله في - العرف - سقط من أجرته ما يقابل الزّمن الّذي ترك فيه العمل من
أجلها بما في ذلك مدّة الصّلاة نفسها، وإلاّ لم يسقط شيء . 14 - الشّرط الرّابع : الحرّيّة : فلا تجب على العبد المملوك ، لانشغاله
بخدمة المولى .
وهذه الشّريطة - أيضاً - محلّ اتّفاق لدى مختلف المذاهب ، ثمّ إنّ السّيّد
إذا أذن لعبده في الخروج لصلاة الجمعة وجبت عليه حينئذ .
15 - الشّرط الخامس : السّلامة : والمقصود بها سلامة المصلّي من العاهات
المقعدة ، أو المتعبة له في الخروج إلى صلاة الجمعة ، كالشّيخوخة المقعدة
والعمى ، فإن وجد الأعمى قائدًا متبرّعاً أو بأجرة معتدلة ، وجبت عليه عند
الجمهور - أبي يوسف ومحمّد والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - ؛لأنّ
الأعمى بواسطة القائد يعتبر قادراً على السّعي خلافاً لأبي حنيفة.
وهناك صورتان أخريان تجب فيهما على الأعمى صلاة الجمعة :
الصّورة الأولى : أن تقام الصّلاة وهو في المسجد متطهّر متهيّئ للصّلاة .
الصّورة الثّانية : أن يكون ممّن أوتوا مهارةً في المشي في الأسواق دون
الاحتياج إلى أيّ كلفة أو قيادة أو سؤال أحد . إذ لا حرج حينئذ عليه في
حضور صلاة الجمعة .
ولا تجب - أيضاً - في حالة خوف من عدوّ أو سبع أو لصّ ، أو سلطان ، ولا في
حالة مطر شديد ، أو وحل ، أو ثلج ، يتعسّر معها الخروج إليها . إذ لا تعتبر
السّلامة متوفّرةً في مثل هذه الحالات . 16 - ثمّ إنّ مَنْ حضر صلاة الجمعة ممّن لم تتوفّر فيه هذه الشّروط الخمسة
ينظر في أمره: فإن كان فاقداً أهليّة التّكليف نفسها ، كالصّبيّ والمجنون ،
صحّت صلاة الصّبيّ واعتبرت له تطوّعاً ، وبطلت صلاة المجنون ؛ لعدم توفّر
الإدراك المصحّح لأصل العبادة .
أمّا إن تكاملت لديه أهليّة التّكليف ، كالمريض والمسافر والعبد والمرأة ،
فمثل هؤلاء إن حضروا الجمعة وصلّوها أجزأتهم عن فرض الظّهر ؛ لأنّ امتناع
الوجوب في حقّهم إنّما كان للعذر ، وقد زال بحضورهم لكن صرّح الشّافعيّة
والحنابلة بأنّ لهم الانصراف ؛ إذ المانع من وجوبها عليهم لا يرتفع بحضورهم
إلاّ المريض ونحوه كالأعمى فيحرم انصرافهما إن دخل الوقت قبل انصرافهما ؛
لأنّ المانع في حقّهما مشقّة الحضور وقد زالت .
17 - ويصحّ أن يؤمّ القوم من هؤلاء كلّ من صحّت إمامته المطلقة في باب صلاة
الجماعة فتصحّ إمامة المريض والمسافر والعبد ، دون المرأة قال في تنوير
الأبصار : ويصلح للإمامة فيها من صلح لغيرها ؛ فجازت لمسافر وعبد ومريض .
وأمّا صفة الّذين تنعقد بهم الجمعة فهي : أنّ كلّ من يصلح إماماً للرّجال
في الصّلوات المكتوبة تنعقد بهم الجمعة ، فيشترط صفة الذّكورة والعقل
والبلوغ لا غير ، فتنعقد الجمعة بعبيد ومسافرين . وهذا عند الحنفيّة .
ومذهب الحنابلة : أنّه لا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء ، ولا تصحّ إمامته .
أمّا الشّافعيّة : فصحّحوا الإمامة من هؤلاء دون الانعقاد به . فلو أمّ
المصلّين مسافر وكان عددهم لا يتجاوز مع إمامهم المسافر أربعين رجلاً ، لم
تنعقد صلاتهم . 18 - فمن توفّرت فيه هذه الشّروط ، حرّم عليه صلاة الظّهر قبل فوات الجمعة ،
لما في ذلك من مخالفة الأمر بإسقاط صلاة الظّهر وأداء الجمعة في مكانها .
أمّا بعد فواتها عليه فلا مناص حينئذ من أداء الظّهر ، بل يجب عليه ذلك ،
غير أنّه يعتبر آثماً بسبب تفويت الجمعة بدون عذر.
فإن سعى إليها بعد أدائه الظّهر والإمام في الصّلاة بطلت صلاته الّتي كان
قد أدّاها بمجرّد انفصاله عن داره واتّجاهه إليها سواء أدركها أم لا . وذلك
لأنّ السّعي إلى صلاة الجمعة معدود من مقدّماتها وخصائصها المأمور بها
بنصّ كتاب اللّه تعالى ، والاشتغال بفرائض الجمعة الخاصّة بها يبطل الظّهر
وهذا عند أبي حنيفة ، أمّا عند الصّاحبين فلا يبطل ظهره بمجرّد السّعي ، بل
لا بدّ لذلك من إدراكه الجمعة وشروعه فيها .
وقال المالكيّة والحنابلة : من وجبت عليه الجمعة إذا صلّى الظّهر قبل أن
يصلّي الإمام الجمعة لم يصحّ ويلزمه السّعي إلى الجمعة إن ظنّ أنّه يدركها .
النّوع الثّالث : شروط الصّحّة فقط :
وهي أربعة شروط :
19 - الأوّل الخطبة : ويشترط تقدّمها على الصّلاة ، وهي كلّ ذكر يسمّى في
عرف النّاس خطبةً ، فمتى جاء الإمام بذلك بعد دخول الوقت ، فقد تأدّى
الشّرط وصحّت الخطبة ، سواء كان قائماً ، أو قاعداً أتى بخطبتين أو خطبة
واحدة ، تلا فيها قرآناً أم لا ، عربيّةً كانت أو عجميّةً ، إلاّ أنّها
ينبغي أن تكون قبل الصّلاة ، إذ هي شرط ، وشرط الشّيء لا بدّ أن يكون
سابقاً عليه وهذا عند الحنفيّة .
واشترط لها المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة خطبتين مستدلّين على ذلك
بمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
واعتبر الشّافعيّة للخطبة أركاناً خمسةً لا بدّ من توافرها وهي : حمد اللّه
، والصّلاة على رسوله ، والوصيّة بالتّقوى . وهذه الثّلاثة أركان في كلّ
من الخطبتين ، والرّابع : قراءة آية من القرآن في إحداهما ، والخامس : ما
يقع عليه اسم الدّعاء للمؤمّنين في الخطبة الثّانية .
واشترط الحنابلة من هذه الأركان قراءة آية من القرآن . قال ابن قدامة ...
قال أصحابنا : ولا يكفي في القراءة أقلّ من آية ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله
عليه وسلم لم يقتصر على أقلّ من ذلك وما عدا ذلك مستحبّ . 20 - الثّاني : الجماعة : قال في البدائع : ودليل شرطيّتها ، أنّ هذه
الصّلاة تسمّى جمعةً ، فلا بدّ من لزوم معنى الجمعة فيها ، اعتبارًا للمعنى
الّذي أخذ اللّفظ منه ... ولهذا لم يؤدّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
الجمعة إلاّ جماعةً ، وعليه إجماع العلماء .
ويتعلّق ببيان كيفيّة هذا الشّرط ثلاثة أبحاث :
واشترط الشّافعيّة والحنابلة أن لا يقلّ المجمعون عن أربعين رجلاً تجب في
حقّهم الجمعة . قال صاحب المغني : أمّا الأربعون فالمشهور في المذهب أنّه
شرط لوجوب الجمعة وصحّتها ، ويشترط حضورهم الخطبتين .
21 - أوّلها : حضور واحد سوى الإمام - على الصّحيح من مذهب الحنفيّة - وقيل
: ثلاثة سوى الإمام ، قال في مجمع الأنهر : لأنّها أقلّ الجمع ، وقد ورد
الخطاب للجمع ، وهو قوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
فإنّه يقتضي ثلاثةً سوى الخطيب ، هذا مذهب أبي حنيفة ومحمّد .
وقال المالكيّة : يشترط حضور اثني عشر من أهل الجمعة .
قال في البدائع : لو نفروا قبل أن يخطب الإمام فخطب وحده ، ثمّ حضروا فصلّى
بهم الجمعة لا يجوز ؛ لأنّ الجماعة كما هي شرط انعقاد الجمعة حال الشّروع
في الصّلاة ، فهي شرط حال سماع الخطبة ؛ لأنّ الخطبة بمنزلة شفع من الصّلاة
، قالت عائشة - رضي الله عنها : إنّما قصرت الجمعة لأجل الخطبة ، وجاء
مثله عن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد فتشترط الجماعة حال سماع الخطبة ، كما
تشترط حال الشّروع في الصّلاة . 22 - ثانيها : يجب حضور ما لا يقلّ عن هذا العدد من أوّل الخطبة .
23 - ثالثها : الجماعة في صلاة الجمعة شرط أداء عند الحنفيّة ، وهو الصّحيح
عند المالكيّة والشّافعيّة ، ولا يتحقّق الأداء إلاّ بوجود تمام الأركان ،
وهي : القيام ، والقراءة ، والرّكوع ، والسّجود . وعلى هذا فلو تفرّقت
الجماعة قبل سجود الإمام بطلت الجمعة ويستأنف الظّهر ، والجماعة شرط انعقاد
عند الصّاحبين ، والانعقاد يتمّ بدخول صحيح في الصّلاة ، وعلى هذا فلو
تفرّقت الجماعة عن الإمام قبل السّجود وبعد الانعقاد صحّت جمعة كلّ منهم
وقد صحّح صاحب " تنوير الأبصار " ما ذهب إليه أبو حنيفة .
أمّا الحنابلة : فظاهر كلام أحمد أنّهم إن انفضّوا قبل كمالها لم يجز
إتمامها جمعةً ، وقياس قول الخرقيّ أنّهم إن انفضّوا بعد ركعة أتمّوها
جمعةً .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن إلى أنّ من أدرك مع
الإمام أقلّ من ركعة ، فإنّه لا يكون مدركاً للجمعة ويصلّيها ظهراً .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : صلاة المقتدي صحيحة على أنّها جمعة إذا أدرك
جزءاً منها مع الإمام ، وإن قلّ . قال في المبسوط : ومن أدرك الإمام في
التّشهّد في الجمعة أو في سجدتي السّهو فاقتدى به فقد أدركها ويصلّيها
ركعتين .
والحكمة من هذا الشّرط ما قاله صاحب البدائع : وإنّما كان هذا شرطاً ؛ لأنّ
اللّه تعالى شرع النّداء لصلاة الجمعة بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ } . 24 - الثّالث من شروط الصّحّة : واشترط الحنفيّة أن تؤدّى بإذن عامّ يستلزم
الاشتهار ، وهو يحصل بإقامة الجمعة في مكان بارز معلوم لمختلف فئات النّاس
، مع فتح الأبواب للقادمين إليه ، قال في تنوير الأبصار : فلو دخل أمير
حصناً أو قصره وأغلق بابه ، وصلّى بأصحابه لم تنعقد .
والنّداء للاشتهار ؛ ولذا يسمّى جمعةً ، لاجتماع الجماعات فيها فاقتضى أن
تكون الجماعات كلّها مأذونين بالحضور إذناً عامّاً تحقيقاً لمعنى الاسم .
ذهب الجمهور إلى منع التّعدّد في أعمّ الأحوال على اختلاف يسير بينهم في
ضابط المكان الّذي لا يجوز التّعدّد فيه . 25 - الشّرط الرّابع : أن لا تتعدّد الجمعة في المصر الواحد مطلقاً :
فمذهب الشّافعيّ وأحمد والمشهور من مذهب مالك هو منع التّعدّد في البلدة
الواحدة كبيرةً كانت أو صغيرةً إلاّ لحاجة .
وهذا - أيضاً - مذهب أبي حنيفة ، وصحّحه ابن عابدين وذكر أنّه اختيار
الطّحاويّ والتّمرتاشيّ ، ونقل عن شرح المنية أنّه أظهر الرّوايتين عن
الإمام ، ونقل عن النّهر والتّكملة : أنّ الفتوى عليه . قالوا : لأنّ
الحكمة من مشروعيّتها هي الاجتماع والتّلاقي ، وينافيه التّفرّق بدون حاجة
في عدّة مساجد ، ولأنّه لم يحفظ عن صحابيّ ولا تابعيّ تجويز تعدّدها .
ومقابله ما رواه في البدائع عن الكرخيّ : أنّه لا بأس بأن يجمعوا في موضعين
أو ثلاثة عند محمّد ، وعن أبي يوسف روايتان :
إحداهما : لا يجوز إلاّ إذا كان بين موضعي الإقامة نهر عظيم كدجلة ونحوها
فيصير بمنزلة مصرين .
والثّانية : يجوز في موضعين إذا كان المصر عظيماً .
وهذا معنى أنّها شروط للصّحّة فقط ، إلاّ ما يتعلّق بفقد الشّرط الأخير ،
فسنذكر حكم ذلك عند البحث عن مفسدات صلاة الجمعة وما يترتّب على فسادها . 26 - فهذه الشّروط الأربعة إذا فقد واحد منها ، بطلت الصّلاة ، مع استمرار
تعلّق الوجوب بها ، حتّى إنّه يجب إعادتها إذا بقي وقت وأمكن تدارك الشّرط
الفائت .
الإنصات للخطبة :
قال في تنوير الأبصار : كلّ ما حرّم في الصّلاة حرّم في الخطبة ، وسواء
أكان الجالس في المسجد يسمع الخطبة أم لا ، اللّهمّ إلاّ أن يشتغل بقضاء
فائتة لم يسقط التّرتيب بينها وبين الصّلاة الوقتيّة فلا تكره ، بل يجب
فعلها .
27 - إذا صعد الإمام المنبر للخطبة ، يجب على الحاضرين أن لا يشتغلوا عندئذ
بصلاة ولا كلام إلى أن يفرغ من الخطبة . فإذا بدأ الخطيب بالخطبة تأكّد
وجوب ذلك أكثر .
فلو خرج الخطيب ، وقد بدأ المصلّي بصلاة نافلة ، كان عليه أن يخفّفها
ويسلّم على رأس ركعتين ، وهذا محلّ اتّفاق بين الأئمّة الأربعة .
غير أنّه جرى الخلاف فيما إذا دخل الرّجل والخطيب يخطب فقد ذهب الحنفيّة ،
والمالكيّة ، إلى أنّه يجلس ولا يصلّي ، شأنه في ذلك كالجالسين دون أيّ فرق
.
وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّه يصلّي ركعتين خفيفتين ما لم يجلس ، تحيّةً
للمسجد وقال الشّافعيّة : إن غلب على ظنّه أنّه إن صلّاها فاتته تكبيرة
الإحرام مع الإمام لم يصلّها .
الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة : 28 - ذهب الجمهور إلى أنّه يسنّ للإمام الجهر في قراءة صلاة الجمعة ، وعند
الحنفيّة يجب الجهر فيها بالقراءة ، قال في البدائع : وذلك لورود الأثر
فيها بالجهر وهو ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنه - أنّه قال : « سمعت
النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة في الرّكعة الأولى سورة
الجمعة وفي الثّانية سورة المنافقين » ولو لم يجهر لما سمع ولأنّ النّاس
يوم الجمعة فرّغوا قلوبهم ، عن الاهتمام بأمور التّجارة لعظم ذلك الجمع
فيتأمّلون قراءة الإمام فتحصل لهم ثمرات القراءة ، فيجهر بها كما في صلاة
اللّيل ، وخالف بقيّة الأئمّة في وجوب الجهر فذهبوا إلى استحبابه .
السّعي لصلاة الجمعة : 29 - من الواجبات المتعلّقة بهذه الشّعيرة : وجوب السّعي إليها ، وترك
معاملات البيع والشّراء عند الأذان الثّاني ، وهو قول الجمهور ، لقوله
تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .
وقال الحنفيّة في الأصحّ عندهم : إنّما يجب ذلك عند الأذان الأوّل ،
ويترتّب على تأخير هذا السّعي الواجب عند سماع النّداء ما يترتّب على ترك
الواجبات من الحرمة بسبب المعصية .
أمّا حكم العقد الّذي يباشره من بيع ، ونحوه بدلاً من المبادرة إلى السّعي
ففي بطلانه ، أو كراهته اختلف الفقهاء.
المستحبّات من كيفيّة أداء الجمعة : 30 - أ - الأذان بين يدي المنبر قبل البدء بالخطبة إذا جلس الخطيب على
المنبر ، وهذا الأذان هو الّذي كان يؤذّن لكلّ من الوقت والخطبة على عهد
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -
ثمّ رأى عثمان - رضي الله عنه - أن يؤذّن أذاناً أوّل للإعلام بدخول الوقت ،
وذلك بسبب كثرة النّاس . وأبقى الأذان الثّاني بين يدي المنبر التزاماً
للسّنّة .
ب - أن يخطب الخطيب خطبتين قائماً ، يفصل بينهما بجلسة خفيفة يفتتحها بحمد
اللّه والثّناء عليه ، والتّشهّد ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه
وسلم ويزيد على ذلك في الخطبة الثّانية الدّعاء للمؤمنين والمؤمنات .
ودليل الّذين لم يشترطوا الطّهارة فيها : أنّ الخطبة من باب الذّكر ،
والمحدث والجنب لا يمنعان من ذكر اللّه تعالى ، أمّا دليل الآخرين : فهو
مواظبة السّلف على الطّهارة فيها ، والقياس على الصّلاة . 31 - وقد اختلف الفقهاء في حكم الطّهارة في الخطبة ، فذهب - الحنفيّة
والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ الطّهارة سنّة في الخطبة ، وذهبت
الشّافعيّة إلى اعتبارها شرطاً فيها .
استحباب كون الخطيب والإمام واحداً :
قال في البدائع : ولو أحدث الإمام بعد الخطبة قبل الشّروع في الصّلاة فقدّم
رجلاً يصلّي بالنّاس : إن كان ممّن شهد الخطبة أو شيئاً منها جاز ، وإن لم
يشهد شيئاً من الخطبة لم يجز ، ويصلّي بهم الظّهر ، وهو ما ذهب إليه جمهور
الفقهاء .
32 - يستحبّ أن لا يؤمّ القوم إلاّ من خطب فيهم ؛ لأنّ الصّلاة والخطبة
كشيء واحد ، قال في تنوير الأبصار : فإن فعل بأن خطب صبيّ بإذن السّلطان
وصلّى بالغ جاز ، غير أنّه يشترط في الإمام حينئذ أن يكون ممّن قد شهد
الخطبة .
وخالف في ذلك المالكيّة ، فذهبوا إلى وجوب كون الخطيب والإمام واحداً إلاّ
لعذر كمرض ، وكأن لا يقدر الإمام على الخطبة ، أو لا يحسنها .
ما يقرأ في صلاة الجمعة : 33 - اتّفق الفقهاء على أنّه : يستحبّ للإمام أن يقرأ في الرّكعة الأولى "
سورة الجمعة " ، وفي الرّكعة الثّانية " سورة المنافقين " . لما روى عبيد
اللّه بن أبي رافع قال : « صلّى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في
الرّكعة الأولى ، وفي الرّكعة الآخرة { إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ }
فلمّا قضى أبو هريرة الصّلاة أدركته فقلت : يا أبا هريرة إنّك قرأت بسورتين
، كان عليّ بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة فقال أبو هريرة : إنّي سمعت
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة » .
كما استحبّ جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - أيضاً قراءة
سورة { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } في الرّكعة الأولى و { هَلْ
أَتَاكَ } في الرّكعة الثّانية . لما روى النّعمان بن بشير قال : « كان
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة { سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى } و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } » .
قال الكاسانيّ : لكن لا يواظب على قراءتها بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات
حتّى لا يؤدّي إلى هجر بعض القرآن ، ولئلاّ تظنّه العامّة حتماً .
وصرّح الماورديّ من الشّافعيّة بأنّ قراءة " الجمعة ، والمنافقين " أولى .
قال النّوويّ : كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين في وقت ، وهاتين في آخر
فهما سنّتان، وصرّح المحلّيّ من الشّافعيّة : بأنّه لو ترك قراءة " سورة
الجمعة " في الأولى قرأها مع " المنافقين " في الثّانية ، ولو قرأ "
المنافقين " في الأولى قرأ " الجمعة " في الثّانية . كي لا تخلو صلاته عن
هاتين السّورتين .
ويندب عند المالكيّة أن يقرأ في الرّكعة الثّانية - أيضاً - بسورة { هَلْ
أَتَاكَ } ، أو { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } .
قال الدّسوقيّ : إنّه مخيّر في القراءة في الرّكعة الثّانية بين الثّلاث - {
هَلْ أَتَاكَ } أو { سَبِّحِ} أو " المنافقون " - وأنّ كلّاً يحصل به
النّدب ، لكن { هَلْ أَتَاكَ } أقوى في النّدب ، وهذا ما اعتمده مصطفى
الرّماصيّ . وفي كلام بعضهم ما يفيد أنّ المسألة ذات قولين ، وأنّ الاقتصار
على { هَلْ أَتَاكَ } مذهب المدوّنة ، وأنّ التّخيير بين الثّلاث قول
الكافي .
مفسدات الجمعة :
تنقسم إلى نوعين :
مفسدات مشتركة ، ومفسدات خاصّة :
34 - فأمّا المفسدات المشتركة : فهي كلّ ما يفسد سائر الصّلوات .
أوّلها : خروج وقت الظّهر قبل الفراغ منها فيصلّيها ظهراً ، ويستوي في
الفساد خروج الوقت قبل المباشرة بها ، وخروجه بعد المباشرة بها وقبل
الانتهاء منها هذا عند الحنفيّة ، ونحوه للشّافعيّة فإنّها تنقلب ظهراً ولا
تكون جمعةً ، وقال الحنابلة : إن أحرموا بها في الوقت فهي جمعة .
وهذا يعني : أنّ اشتراط وقت الظّهر لها مستمرّ في الاعتبار إلى لحظة الفراغ
منها قال في تنوير الأبصار : لأنّ الوقت شرط الأداء لا شرط الافتتاح .
وقال المالكيّة : شرط الجمعة وقوع كلّها بالخطبة وقت الظّهر للغروب .
35 - وأمّا مفسداتها الخاصّة بها فتنحصر في الأمور التّالية :
ثانيها : انفضاض الجماعة أثناء أدائها ، قبل أن تقيّد الرّكعة الأولى
بالسّجدة فيصلّيها ظهراً. وذلك على ما ذهب إليه الأئمّة القائلون : بأنّ
الجماعة شرط أداءً ، وأمّا على ما رجّحه الآخرون ، فلا أثر لانفساخها بعد
الانعقاد وإن لم تقيّد الرّكعة الأولى جماعةً .
وللشّافعيّة ثلاثة أقوال : الأظهر : يتمّها ظهراً ، والثّاني : إن بقي معه
اثنان يتمّها جمعةً ، والثّالث : إن بقي معه واحد يتمّها جمعةً .
وسبب هذا الخلاف : أنّ الجماعة شرط أداءً لصحّة الجمعة عند بعض الأئمّة ،
وهي عند بعضهم شرط انعقاد .
قضاء صلاة الجمعة : 36 - صلاة الجمعة لا تقضى بالفوات ، وإنّما تعاد الظّهر في مكانها . قال في
البدائع : وأمّا إذا فاتت عن وقتها ، وهو وقت الظّهر ، سقطت عند عامّة
العلماء ; لأنّ صلاة الجمعة لا تقضى ؛ لأنّ القضاء على حسب الأداء ،
والأداء فات بشرائط مخصوصة يتعذّر تحصيلها على كلّ فرد ، فتسقط ، بخلاف
سائر المكتوبات إذا فاتت عن أوقاتها وهذا محلّ اتّفاق .
إجتماع العيد والجمعة في يوم واحد : 37 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه إذا وافق العيد يوم الجمعة فلا يباح
لمن شهد العيد التّخلّف عن الجمعة . قال الدّسوقيّ : وسواء من شهد العيد
بمنزله في البلد ، أو خارجها .
وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد فصلّوا العيد
والظّهر جاز وسقطت الجمعة عمّن حضر العيد ؛ لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه
وسلم صلّى العيد ، وقال : من شاء أن يجمّع فليجمّع » وصرّحوا بأنّ إسقاط
الجمعة حينئذ إسقاط حضور لا إسقاط وجوب ، فيكون حكمه كمريض ونحوه ممّن له
عذر أو شغل يبيح ترك الجمعة ، ولا يسقط عنه وجوبها فتنعقد به الجمعة ويصحّ
أن يؤمّ فيها .
والأفضل له حضورها خروجاً من الخلاف . ويستثنى من ذلك الإمام فلا يسقط عنه
حضور الجمعة ، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه
وسلم قال : « قد اجتمع في يومكم هذا عيدان ، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنّا
مجمّعون » .
ولأنّه لو تركها لامتنع فعلها في حقّ من تجب عليه ، ومن يريدها ممّن سقطت
عنه ، وقالوا: إن قدّم الجمعة فصلّاها في وقت العيد ، فقد روي عن أحمد قال :
تجزئ الأولى منهما .
فعلى هذا : تجزيه عن العيد والظّهر ، ولا يلزمه شيء إلى العصر عند من جوّز
الجمعة في وقت العيد .
وأجاز الشّافعيّة في اليوم الّذي يوافق فيه العيد يوم الجمعة لأهل القرية
الّذين يبلغهم النّداء لصلاة العيد : الرّجوع وترك الجمعة ، وذلك فيما لو
حضروا لصلاة العيد ولو رجعوا إلى أهليهم فاتتهم الجمعة ؛ فيرخّص لهم في ترك
الجمعة تخفيفاً عليهم . ومن ثمّ لو تركوا المجيء للعيد وجب عليهم الحضور
للجمعة ، ويشترط - أيضاً - لترك الجمعة أن ينصرفوا قبل دخول وقت الجمعة.
آداب صلاة الجمعة ويومها :
اختصّ يوم الجمعة واختصّت صلاتها بآداب تشمل مجموعة أفعال وتروك، مجملها
فيما يلي:
أوّلاً : ما يسنّ فعله :
قال صاحب البدائع في بيان علّة ذلك : لأنّ الجمعة من أعظم شعائر الإسلام ،
فيستحبّ أن يكون المقيم لها على أحسن وصف كما يسنّ التّبكير في الخروج إلى
الجامع والاشتغال بالعبادة إلى أن يخرج الخطيب .
وهذا كلّه ممّا اتّفقت الأئمّة على ندبه ، وانفرد المالكيّة - أيضاً -
فاشترطوا في الغسل أن يكون متّصلاً بوقت الذّهاب إلى الجامع ، قال في
الجواهر الزّكيّة : فإن اغتسل واشتغل بغذاء أو نوم أعاد الغسل على المشهور ،
فإذا خفّ الأكل ، أو النّوم فلا شيء عليه في ذلك .
38 - يسنّ له أن يغتسل ، وأن يمسّ طيباً ويتجمّل ، ويلبس أحسن ثيابه ،
لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً : « لو أنّكم تطهّرتم ليومكم هذا » ،
وفي رواية عن أحمد : الغسل لها واجب .
ثانياً : ما يسنّ تركه :
39 - أوّلاً : أكل كلّ ذي ريح كريهة : كثوم وبصل ونحوهما .
وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة ، حيث صرّحوا بكراهته . قال النّوويّ :
والصّحيح أنّه مكروه ؛ فقد صحّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن
الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب » وقال الخطّابيّ من أصحابنا : نهى عنه
لأنّه يجلب النّوم ، فيعرّض طهارته للنّقض ويمنعه من استماع الخطبة .
ولم ير جمهور الفقهاء به بأساً حيث صرّحوا بجوازه .
كما صرّح الشّافعيّة بكراهة تشبيك الأصابع . قال النّوويّ : يكره أن يشبّك
بين أصابعه أو يعبث حال ذهابه إلى الجمعة وانتظاره لها .
40 - ثانياً : تخطّي الرّقاب في المسجد ، وهو محرّم إذا كان الخطيب قد أخذ
في الخطبة ، إلاّ أن لا يجد إلاّ فرجةً أمامه ولا سبيل إليها إلاّ بتخطّي
الرّقاب ، فيرخّص في ذلك للضّرورة .
41 - ثالثاً : تجنّب الاحتباء والإمام يخطب .
فإن فعل ذلك فهو آثم على الرّاجح ما لم يتضرّر بتخلّفه عن رفقته .
وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - حيث
صرّحوا بحرمة السّفر بعد الزّوال .
كما صرّح المالكيّة والحنابلة بكراهة السّفر بعد طلوع فجر يوم الجمعة .
وذهب الشّافعيّ في الجديد : إلى أنّ حرمة السّفر تبدأ من وقت الفجر وهو
المفتى به في المذهب ، ودليله : أنّ مشروعيّة الجمعة مضافة إلى اليوم كلّه
لا إلى خصوص وقت الظّهر ، بدليل وجوب السّعي إليها قبل الزّوال على بعيد
الدّار42 - يحرم عند الجمهور إنشاء سفر بعد الزّوال " وهو أوّل وقت الجمعة " من
المصر الّذي هو فيه ، إذا كان ممّن تجب عليه الجمعة ، وعلم أنّه لن يدرك
أداءها في مصر آخر