الحمامة المطوقةقال الفيلسوف بيدبا كبير حكماء الهند لدبشليم ملك الهند:
زعموا أنه كان بأرض دستاد، عند مدينة يقال لها ماروات، مكانٌ للصيد يتصيد فيه الصيادون. وكان في ذلك المكان شجرةٌ عظيمةٌ كثيرةُ الغصون ملتفة الورق، وكان فيها وكر غراب يقال له "حائر. فبينما الغراب ذات يومٍ واقفٌ على الشجرة إذ بصر برجلٍ من الصيادين قبيح المنظر سيء الحال، وعلى عنقه شبكة، وفي يده شركٌ وعصا، وهو مقبلٌ نحو الشجرة. فذعر الغراب منه وقال: لقد ساق هذا الصياد إلى ههنا أمرٌ، فما أدري ما هو! هل جاء يريدني أنا أم يريد غيري؟ ولكني ثابتٌ على كل حال، وناظرٌ ما يصنع.
فنصب الصياد شبكته ونثر فيها حبه وكمن قريباً، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مرت به حمامة يقال لها "المطوقة" –وكانت سيدة الحمام- ومعهما حمامٌ كثير. فرأت الحب ولم تر الشبكة، فانقضت وانقض الحمام معها، فوقعن في الشبكة جميعاً. وجعلت كل حمامةٍ منهن تضطرب على ناحيتها وتعالج الخلاص لنفسها، فقالت المطوقة: لا تتخاذلن في المعالجة، ولا تكن نفس كل واحدةٍ منكن أهم إليها من نفس صاحبتها، ولكن تعاونَّ فلعلنا نقلع الشبكة فينجي بعضنا بعضاً.
ففعلن ذلك فانتزعن الشبكة حين تعاونَّ عليها، وطرن بها في علو السماء.
ورأى الصياد صنيعهنَ فأتبعهنَ يطلبهن، ولم يقطع رجاءه منهن، وظن أنهن لا يطرن إلا قريباً حتى يقعن. وقال الغراب: لأتبعهن حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرهن وأمره. والتفتت "المطوقة" فلما رأت الصياد يجري خلفهن قالت للحمام: ها هو ذا جاء يطلبكن، فإن نحن ارتفعنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا، ولم يزل يتبعنا، وإن نحن تغلغلنا في الشجر والعمران لم نلبث أن يضيع عليه أمرنا، ولم يزل يتبعنا حتى ييأس منا فينصرف، ومع ذلك إن قريباً من الطريق جحر جرذٍ، وهو صديقٌ لي، فلو انتهينا إليه لقطع عنا هذه الشبكة وخلصنا منها.
ففعل الحمام ما أمرتهن به "المطوقة" وخفين على الصياد فيأس منهن وانصرف.
وثبت الغراب على حاله لينظر هل للحمام من حيلةٍ للخروج ما هن فيه فيتعلمها وتكون عدةً لنفسه إن وقع في مثلها. فلما انتهت "المطوقة" إلى مكان الجرذ أمرت الحمام بالنزول فنزلن. فنادته المطوقة باسمه –وكان اسمه زيرك- فأجابها من الجحر وقال: من أنت؟ فقالت له: خليلتك المطوقة. فخرج إليها مسرعاً، فلما رآها في الشبكة قال لها: يا أختي، ما أوقعك في هذه الورطة وأنت من الأذكياء؟ قالت له: المقادير هي التي أوقعتني في هذه الورطة، ودلتني على الحب، وأخفت علي الشبكة حتى لججت فيها وصويحباتي.
ثم إن الجرذ أخذ في تقريض العقد التي كانت فيها المطوقة، فقال له: ابدأ بتقريض عقد سائر الحمام قبلي وانصرف إلي بعد ذلك: فأعادت ذلك عليه مراراً –وهو لا يلتفت إلى قولها- فلما ألحت عليه قال لها: قد كررت علي هذه المقالة كأنك لا تهمك نجاة نفسك، ولا ترين لها عليك حقاً. فقالت له المطوقة: لا تلمني على ما سألتك، فإني قد كلفت لجماعتهن بالرياسة، فحق ذلك علي عظيم. وقد أدين إلي حقي في الطاعة والنصيحة، بمعونتهن وطاعتهن، وبذلك نجانا الله من الصياد. وإني تخوفت –إن أنت بدأت بقطع عقدتي- أن تمل وتكل ويبقى بعض من معي. وعرفت أنك إن بدأت بهن وكنت أنا الأخيرة لم ترض- وإن أدركك الكلال والفتور- حتى تخلصني مما أنا فيه. فقال لها الجرذ: وهذا أيضاً مما يزيد أهل مودتك فيك رغبةً، وعليك حرصاً، وأخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، وانطلقت المطوقة والحمام راجعاتٍ إلى أماكنهن.