نادرون هم الأبطال الكونيون الذين لا تقف شهرتهم وشعبيتهم عند حدود بلادهم أو مجتمعاتهم الضيقة، بل تمتد وتتجاوز كل الحدود والمسافات لتصل إلى كل أركان الأرض وزواياها.. تشي جيفارا كان واحدا من هؤلاء الذين أصبح مجرد ذكرهم أو رؤية صورتهم رمزا ودلالة لكل معاني الحرية والثورة ومقاومة الظلم والمفاسد والاحتلال في كل العصور والأزمان.
ولد "أرنستو جيفارا دي لاسيرنا" في 14 أغسطس عام 1928، في حي "روساريو" بمدينة "بيونس أيريس" عاصمة الأرجنتين، ويبدو أن تأثير الأب في حياته كان محدودا بعض الشيء وأن الفضل الأكبر في بث روح المعرفة والفهم ثم التمرد والثورة يعود إلى والدته إذ جعلته يهتم بقراءة تاريخ بلاده وأمريكا اللاتينية كلها كما دربته على تذوق الشعر الإسباني منه على وجه الخصوص.
أصيب "جيفارا" في طفولته بمرض الربو، الأمر الذي جعل الأسرة تترك العاصمة وتذهب إلى الريف الأرجنتيني بحثا عن جو أكثر جفافا حفاظا على صحة الابن.. وهناك ولأول مرة التقت عيون "جيفارا"- المنتمي إلى أسرة ميسورة الحال- بالآثار التي يتركها الفقر في أجساد وأرواح البشر وعندما عاد إلى "بيونس أيريس" ثانية حتى يلتحق بكلية الطب ظلت صورتهم عالقة في باله ولم تغب عنه للحظة واحدة، الأمر الذي جعله يقرر عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره أن يشد الرحال هو وصديق له في جولة إلى شمال القارة من خلال دراجاتهم البخارية فقط لكي يكتشفوا العوالم الأخرى والناس الآخرين وهناك بدأ الهم الإنساني العام يتكشف لدى "جيفارا" عندما لمح مخالب الفقر والظلم والفساد وقد مزقت جسد أمريكا اللاتينية التي كانت تعيش في هذا الوقت- أوائل الخمسينيات- في ذروة الاضطهاد للشعوب من الحكام الذين تحالف أغلبيتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي عام 1953 توجه "جيفارا" بمفرده إلى جواتيمالا التي كانت تخوض أكبر حرب ويقود الشعب فيها رئيسهم المنتخب ضد المتمردين المدعومين من المخابرات الأمريكية، ويعتبر هذا العام هو البداية الحقيقية لنشاط "جيفارا" الثوري، صحيح أنه وقتها اكتفى بأن يقوم بدوره كطبيب في تضميد الجراح ورعاية المصابين إلا أنه ورغم دوره السلمي أعلن لأول مرة فكرته حول أن الشعوب المسلحة وحدها هي التي تستطيع التحكم في مستقبلها.
جواتيمالا لم تشهد الظهور الأول لـ"جيفارا" فحسب، بل رق فيها قلبه لـ"هيلدا" المناضلة اليسارية التي تزوجها وأنجب منها طفلة أيضا، والغريب أن "هيلدا" – كأية أنثى تحب أن يظل حبيبها بجوارها هادئا ساكنا- لم تبعد "جيفارا" عن طريقه النضالي ولم تطلب منه الابتعاد عن مقاومة الظلم ومكافحة الاحتلال وإنما هي التي زكت بداخله هذه الروح وجعلته يقرأ لأول مرة في أصول الاشتراكية والماركسية، وبعد أن سقطت جواتيمالا في يد المتمردين بعد ثمانية أشهر من المقاومة لم يكن هناك بديل أمام "جيفارا" سوى شد الرحال إلى المكسيك التي أصبحت في هذا الوقت قبلة كل الباحثين عن الحرية وهناك قابل نصفه الآخر الذي صنع معه تاريخا نضاليا فريدا.. فيدل كاسترو.
معا شكل "جيفارا" و"كاسترو" فريقا للمقاومة قوامه 80 مقاتلا فحسب قرروا بعدها أن الوقت قد حان لشن الهجوم بطريقة حرب العصابات على النظام الحاكم الفاسد في كوبا الموالي لأمريكا، وفي أول معركة شنها (جيفارا- كاسترو) في إحدى المناطق الريفية في البلاد، وكانت المعركة شديدة العنف للدرجة التي أفنت معظم فريق المقاومة ولم يتبق منهم سوى ثمانية أشخاص فقط منهم الثلاثي جيفارا، كاسترو، وراءول شقيق "كاسترو"، إلا أن المعركة كان لها دوي كبير في نفوس الشعب الكوبي الذي بدأ في التضامن مع رجال المقاومة التي زاد حجمها وزاد تنظيمها وفنية ضرباتها إلى أن استطاع "كاسترو" و"جيفارا" أن يدخلا معا هافانا عاصمة البلاد في يناير عام 1959 ليفرض رجالهم سيطرتهم تماما عليها وليتم تغيير نظام الحكم الفاسد في البلاد.
بعدها بدأت مرحلة جديدة في حياة "جيفارا"، إذ منحه "كاسترو" الجنسية الكوبية، وقلده عددا من المناصب السياسية المهمة في البلاد منها وزير الصناعة، وظل "جيفارا" طوال ست سنوات كاملة داعيا شرسا للثورة في كل بلاد العالم ومقاوما للهيمنة الأمريكية في بلاده وفي أمريكا اللاتنية، إلا أن الثورة الكوبية –مثلها كباقي الثورات- أصيبت بأمراض السلطة المطلقة والتنكيل بالمعارضين، الأمر الذي وضع "جيفارا" في موقف صعب، فكيف بالرجل الذي حارب طوال سنوات عمره من أجل القضاء على الظلم وإعلاء راية الحق يشارك في صنع الظلم والمفاسد؟!
وعليه قرر "جيفارا" أن يهاجر إلى قارة أخرى كانت الثورة فيها تتنفس على مهل وهدوء.. هي القارة التي كانت في حاجة إلى قائد مثله حتى يمنحها قبلة الحياة لعلها تنفض وتقبض على حريتها بيديها.. وبعد رسالة إلى رفيق دربه "كاسترو" يشكره على سنوات الكفاح والمقاومة ويعلنه بقاءه هو وكوبا في ركن خاص في قلبه.. حط طائر الحرية والثورة رحاله في قلب القارة السمراء.. في الكونغو "زائير" تحديدا.
وكأنه بهذا يؤكد مقولته الشهيرة "إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني"، إلا أن الظلم- للأسف الشديد- انتصر هذه المرة، وعصت تربة القارة السمراء على زرع حبوب الحرية التي يبذرها "جيفارا" في كل أرض يطؤها ووقف اختلاف اللغة وعدم تعاون الثوار الأفارقة معه كحواجز يصعب اجتيازها لم تمكن "جيفارا " من تحقيق حلم الحرية الكوني، فعاد إلى كوبا –بناء على دعوة كاسترو- ليقضي فيها بعضا من الوقت قبل أن تعاود روح الثورة والتمرد بداخله نشاطها من جديد فيقرر أن ينتقل إلى بوليفيا ليس لدعم الثوار فيها فحسب بل لكي يجعلها رأس الحربة لنشر روح الثورة والمقاومة في كل أراضي أمريكا اللاتينية، ولذا لم تكن في خطته مطلقا البدء في الحرب مع النظام البوليفي المعدوم من الولايات المتحدة إلا بعد فترة، خاصة أنه واجه صعوبة في دعم الحشود معها بعد أن نجحت سياسات الموت والدم التي استخدمها النظام في بوليفيا في إشاعة الخوف والذعر لدى الفلاحين ومواطني البلاد.
إلا أنه أجبر على الدخول في المواجهة مبكرا وقبل الإعداد لها بشكل جيد عندما بدأ الجيش البوليفي في شن الهجوم عليه وعلى رجاله حتى جاء يوم 8 أكتوبر عام 1967 عندما هاجمت قوة من الجيش البوليفي قوامها 1500 فرد مجموعة "جيفارا" المكونة من 16 فردا فقط المستترة بإحدى القرى، وقد قاوم "جيفارا" ورجاله رغم هذا الفارق الشاسع في العدد والعتاد لست ساعات كاملة، ولم يستسلم "جيفارا" مطلقا حتى بعد مقتل كل رفاقه ورغم إصابته في ساقه بطلق ناري.. حتى نفد كل الرصاص الذي يملكه وأطبق عليه من كل الجهات.
وفي اليوم التالي جاء المشهد الحزين الباكي عندما صدر القرار بإعدامه رميا بالرصاص ونفذ الحكم فيه بمدرسة في الريف البوليفي حيث تم إطلاق الرصاص عليه من أسفل الخصر حتى تطول فترة احتضاره إلا أن ضابطا سكيرا أخذه الحماس فأطلق رصاصة في قلبه ليموت في الحال.. بعدها تم نقل جثمانه إلى مكان مجهول رفضت السلطات البوليفية أن تعلن عنه حتى لا يصبح مزارا ورمزا لكل الباحثين عن الحرية والثورة.. لكن روح "جيفارا" وأفكاره ومبادئه وصوره المنتشرة في كل بقعة في الأرض تبث روح الثورة والتمرد والحرية أكبر دليل على أن الأبطال الحقيقيين لا قبر لهم.