عندما يقرأ البعض هذا العنوان الذي مضمونه أن اللغة العالمية الحالية هي اللغة
الإنجليزية قد يمر به كما لو كان شيئا عاديا حيث إن هذه الحقيقة متعارف
عليها منذ زمن طويل ومسلم بها وأنها ترد عشرات المرات أمامه في الجرائد
والمجلات، بل والأكثر من هذا أنه لا اعتراض ولا تساؤل عن سبب هذه الحقيقة
التي تتنامى في سيطرتها بمرور الأيام حيث يزداد اعتقاد كل فرد سواء كان
كبيرا أو صغيرا بأهمية اللغة الإنجليزية ، ففي أي مكان عام به لافتات نجد
أن الكلمة العربية التي في اللافتة يوجد معها ترجمتها بالإنجليزية ، وأن
معظم إعلانات الوظائف تكتب بالإنجليزية وخاصة إذا كانت الشركة المعلنة
تتعامل مع جنسيات أخرى، وفوق هذا تكون إجادة الإنجليزية كتابة وتحدثا
عاملا أساسيا من عوامل اختيار الموظف في أي مكان عمل.
فمن كانت الإنجليزية هي لغته الأم فله أن يكون فخورا بأن لغته الأم تسود
العالم في هذا العصر ويكتب بها كل ما هو متقدم من أبحاث وعلوم، أما من لم
تكن لغته الأم هي الإنجليزية فعليه أن يسعى جاهدا لمواكبة العصر وبذل
قصارى الجهد في تعلم اللغة الإنجليزية وإتقانها.
فما السر في طغيان الإنجليزية ليقال أنها تستحق بجدارة أن تكون هي اللغة
العالمية وليس العربية أو الفرنسية أو الألمانية أو الإسبانية وغيرها من
اللغات
الأخرى. ما الذي يصنع اللغة العالمية؟ لقد حير هذا السؤال الكثيرين.
***
الرغبة ملحة جدا في معرفة سبب سيادة لغة معينة في وقت ما، ولا يجب أن يغيب
عن بالنا أن الإنجليزية التي نتحدث عنها الآن هي عالمية في عصرنا هذا وليس
من قديم الأزل.
لذا يجب أن نبحث ونتفكر بصفة عامة في سبب كون لغة معينة عالمية في وقت معين.
ولقد أعطى الكثير من الباحثين أسبابا عديدة لتفسير كون الإنجليزية لغة
عالمية في هذا العصر ومن ضمن هذه التفسيرات والرد عليها ما يلي:
1 يقول بعض الباحثين أن اللغة تسود لكثرة عدد المتحدثين بها.
وقد يصدق هذا القول في عصرنا ولكن بالرجوع إلى التاريخ نجد أن هناك حالات مناقضة لهذه الفكرة.
فاللغة اللاتينية قد أصبحت لغة دولية في جميع أنحاء الامبراطورية
الرومانية، ولكن هذا لم يكن بسبب أن الرومان كانوا يفوقون الشعوب التي
استعبدوها عددا, ولكن السبب بمنتهى البساطة أنهم كانوا أقوى.
وفيما بعد عندما انهزمت القوة العسكرية الرومانية، استمرت اللاتينية لألف
عام كلغة دولية للتعليم, حيث كان لها نوع آخر من القوة خلاف القوة
العسكرية وهى القوة الكهنوتية الكاثوليكية الرومانية.
لذا لا يمكننا التسليم بأن اللغة تسود العالم بسبب كثرة عدد المتحدثين،
فقد يكون هذا قد حدث بالمصادفة أو كعامل معزز لسيادتها ولكنه ليس السبب
الرئيسي.
2 هناك رأى آخر يقول أن أقوى الروابط توجد بين السيادة اللغوية والقوة
الثقافية، وهذا القول يتضح عندما نسرد تاريخ اللغة الإنجليزية الثقافي
والأدبي والأعمال العالمية العظيمة التي سردت به، فقد يصدق هذا القول وأن
هذا هو السبب الذي جعلها لغة عالمية، ولكن في الحقيقة أنه بدون رابطة
القوة الشديدة تلك أيما كانت سياسية أو عسكرية لا تستطيع لغة أن تصنع
تقدما كوسيلة اتصال دولية، وليس للغة ما هذا الوجود المستقل الذي تعيش فيه
في حيز خرافي منفصلة عن متحدثيها.
فاللغة توجد فقط في عقول وأفواه وآذان وأيدي وعيون متحدثيها, فعندما
ينجحون على المستوى الدولي، تنجح لغتهم وعندما يفشلون تفشل لغتهم.
وموضوع القوة الثقافية وكونها سببا لسيادة اللغة لذلك قد يكون من ضمن الأسباب ولكنه لا يجب أن يوضع في المقدمة.
3 ومن المعتقدات المضللة التي توضح أسباب سيادة اللغة عالميا، والتي سادت
على مر السنين، أن اللغة هي نموذج كامل الأوصاف على أساس خواصها الجمالية
الملحوظة أو وضوحها في التعبير أو قوتها الأدبية أو موقفها الديني مثل
اللغات العبرية واليونانية واللاتينية والعربية والفرنسية التي كانت من
ضمن اللغات في أزمنة متنوعة قد مجدت بهذه المصطلحات, ولا نستثني اللغة
الإنجليزية من هذا, فهذا يوحي بأن هناك شيئا ما يجب أن يكون موروثا سواء
كان جماليا أو منطقيا عن تركيب اللغة الإنجليزية، وهذا من أجل توضيح سبب
استخدامها على هذا النحو الواسع.
4 ومن الآراء الأخرى حول هذا الأمر ما قاله البعض بأن الإنجليزية (ذات
قواعد لغوية أقل من اللغات الأخرى) فأدلى المفكرون بآرائهم حيث يقول البعض
أن: (اللغة الإنجليزية ليس لها الكثير من النهايات في كلماتها، وأنه لا
يجب علينا تعلم الفرق بين المذكر والمؤنث والجنس المحايد, لذا يبدو أنها
أسهل في تعلمها).
وفى عام 1848 كتب ناقد في جريدة ( The Athenaeum) أو (المجمع اللغوي) عن
اللغة الإنجليزية: (من حيث سهولة بناء قواعدها، وقلة تصريفاتها وتقريبا
عدم اهتمامها الإجمالي بالفروق في الجنس فيما عدا الصفات الخاصة بالطبيعة،
وفى بساطة ودقة نهاياتها, وأفعالها المساعدة ولا يقل عن هذا فخامتها
وقوتها وغزارتها في التعبير، استحقت لغتنا الأم أن يهيئها النظام لأن تصبح
لغة العالم) ولقد أسيء فهم هذه الحجج والحكم عليها، فاللاتينية في وقت ما
كانت لغة دولية عالمية على الرغم من نهاياتها التصريفية الكثيرة وعلى
الرغم من اختلافات الجنس, والفرنسية أيضا قد نالت هذه المكانة مكانة اللغة
العالمية الدولية على الرغم من كون أسمائها إما مذكرا أو مؤنثا.. وهكذا
وفى أوقات مختلفة وأماكن متنوعة كانت كذلك اللغة اليونانية الكثيرة
التصريفات والإسبانية والعربية والروسية في تلك المكانة العالمية، ولم يكن
لسهولة التعلم شأن بذلك، فالأطفال من مختلف الثقافات قد تعلموا التحدث
باللغة التي هي عالمية في عصرهم بصرف النظر عن الاختلافات عن قواعد لغتهم
الأم.
5 ويرى البعض الآخر أن لغة ما قد يكون لها خصائص معينة تجعلها مقبولة دوليا .
فمثلا أحيانا ما يعلق المتعلمون على (مألوفية) مفردات اللغة الإنجليزية
والمشتقة من الطريقة التي استعارت بها الإنجليزية آلاف من الكلمات الجديدة
من اللغات الأخرى التي كانت على صلة بها، و(الترحيب) الذي أعطته
الإنجليزية لمفردات اللغات الأخرى الأجنبية عنها قد أعطاها مكانا مناقضا
لبعض اللغات الأخرى (جدير بالذكر: الفرنسية) والتي حاولت أن تبعد عنها أي
مصطلحات أجنبية, مما يعطي للغة الإنجليزية شخصية متحررة التي يراها البعض
كميزة للغة العالمية.
ولقد كان هناك تعليقات حول خصائص تركيبية أخرى أيضا مثل عدم وجود نظام في
قواعد اللغة الإنجليزية يرمز إلى اختلاف الطبقات الاجتماعية مما جعل
الإنجليزية تبدو أكثر ديموقراطية لمن يتحدثها, والتي لا تتضمن نظاما
متشابكا من العلاقات الطبقية.......... ولكن هذه الميزات المفترض
بجاذبيتها هي عرضية وتحتاج إلى أن توزن مقابل الخصائص اللغوية الأخرى التي
قد تبدو أقل مرغوبية دوليا بكثير (وجدير بالذكر في حالة الإنجليزية وجود
الكثير من حالات الشواذ في نظام التهجي...... وانطلاقا من تلك الآراء
المختلفة عن اللغة العالمية نستطيع القول بأنه لا يوجد واحد منهم كافٍ أو
مقنع لتعليل كون الإنجليزية لغة عالمية, فاللغة لا تصبح لغة عالمية بسبب
خصائصها التركيبية المتشابكة أو بسبب حجم مفرداتها أو لأنها كانت أداة
للأدب العظيم في الماضي, أو لأنها كانت مرتبطة بالثقافة العظمى أو بالدين.
وبالطبع فكل هذه العوامل محفزة جدا لتعلم اللغة، ولكن لا يستطيع أي عامل
منها بمفرده أو حتى هذه العوامل مجتمعة حتى أن تضمن انتشار اللغة عالميا
وهذه العوامل لا تضمن بقاء اللغة كلغة حية كما هو واضح من حالة اللغة
اللاتينية التي أصبحت تدرس اليوم كلغة كلاسيكية يدرسها فقط القليل من
العلماء.
ويمكننا القول عندئذ أن اللغة تصبح دولية لسبب واحد رئيسي هو القوة السياسية لشعبها، خاصة القوة العسكرية.
ويتضح ذلك على مر التاريخ, فلماذا أصبحت اللغة اليونانية مثلا هي لغة
اتصال دولي في الشرق الأوسط لأكثر من 2000 عام مضت؟ لم يكن هذا بسبب
عقليات أفلاطون وأرسطو, وتكمن الإجابة في السيوف والحراب التي استخدمتها
جيوش الإسكندر الأكبر.
لماذا أصبحت اللاتينية دارجة في جميع أنحاء أوروبا؟ ليسأل في هذا جيوش الإمبراطورية الرومانية.
ولماذا تم التحدث باللغة العربية على نطاق واسع خلال شمال أفريقيا والشرق
الأوسط؟ وليتتبع انتشار الإسلام والذي قامت به قوة الجيوش المغربية منذ
القرن الثامن عشر.....
إن تاريخ لغة عالمية يمكن تتبعه من خلال البعثات الناجحة لمتحدثيها من الجنود والبحارة, ولا يمكن استثناء اللغة الإنجليزية من ذك.
ولكن سيادة القوة الدولية ليس فقط هي نتاج القوة العسكرية، فقد يتطلب
إنشاء لغة عالمية شعبا ذا قوة عسكرية, ولكن قد يتطلب شعب آخر قوى اقتصادية
لمواصلتها والتوسع فيها, وعادة ما يكون هذا هو الحال, ولكنه قد أصبح عاملا
خطيرا خاصة في أوائل القرن العشرين مع التطورات الاقتصادية البادئة في
الانتشار على المحور العالمي, والتي تساندها تكنولوجيات الاقتصاد الجديدة
التلغراف والتليفون والراديو....الخ والمعززة لظهور المنظمات عديدة
الجنسيات الضخمة.
ولقد أدى نمو التنافس الصناعي والأعمال إلى انفجار في التسويق والإعلان الدولي.
ولقد وصلت قوة الطباعة إلى مستويات لم تصل إليها من قبل, والتي سرعان ما
تخطتها وسائل الإذاعة بقدرتها على تعدي الحدود القومية بالسهولة
الإلكترومغناطيسية والتكنولوجيا في مجال الأفلام والتسجيلات قد غذت حجم
صناعة الترفيه التي قد كان لها تأثير عالمي واسع.
ولقد عزز الحافز لعمل تقدم في العلم والتكنولوجيا العقلية الدولية، ومجال البحث، والذي أعطى الثقافة والتعليم الآتي وضعا متقدما.
إن أي لغة في مركز مثل هذا الانفجار من الحماس الدولي قد تجد نفسها فجأة في وضع عالمي.
واللغة الإنجليزية كانت في الموضع الصحيح في الوقت المناسب.
وعلى مشارف القرن التاسع عشر أصبحت بريطانيا دولة العالم الرائدة.
وفي نهاية ذلك القرن كان تعداد السكان في الولايات المتحدة الأمريكية
(الذي قارب 100 مليون) أكبر من تعداد أي دولة في أوروبا الغربية، وكان
اقتصادها كذلك هو أكثر الاقتصاديات ازديادا وأسرعها نموا في العالم.....
ولقد قامت الإمبريالية السياسية البريطانية بنشر اللغة الإنجليزية في كل
مكان من الكرة الأرضية وذلك خلال القرن الـ 19 ولهذا فقد كانت هي (لغة لا
تغيب عنها الشمس) وفى القرن العشرين استمر هذا الحضور العالمي وتقدم,
غالبا بمفرده، من خلال التفوق الاقتصادي للقوة الأمريكية العليا الجديدة..
وكانت اللغة التي وراء الدولار الأمريكي هي اللغة الإنجليزية